الرأي

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة غليزان

إذا كان الله – العزيز الحكيم – قد ابتلى الجزائريين بأخبث وأنجس “استعمار”، وهو الاستخراب الفرنسي، فقد منّ – سبحانه وتعالى- عليهم بتوفيق خيرتهم إلى تأسيس “خير جمعية أخرجت للناس”، حيث بعث فيهم علماء من أنفسهم دما ومن أنفسهم علما وعملا وخلقا. فقهوا دينهم الحق فقها صحيحا، وطبقوه تطبيقا سليما، وأدركوا خبث مخططات فرنسا الشيطانية في سلخ أمّة كريمة عن دينها. ولسانها، وحضارتها وإلحاقها بأمشاج وأمساخ.

لقد علم أولئك العلماء أن الله – عز وجل- سائلهم عمّا عملوا فيما علموا، فلم يقعدوا مع “القواعد”، ولم يتخلّفوا مع الخوالف، وعزموا أن ينفروا ويتوكلوا على الله – العلي القدير – لـ “إفساد” ذلك المخطط الفرنسي الشرير بكل ما استطاعوا من قوة، لإقالة شعبهم من عثرته، وتنبيهه من غفلته، وإيقاظه من نومه.

وقد اهتدوا إلى أن أهم عوامل النجاح لمشروعهم هو أن يستدبروا العمل الفردي ويحيوا “واجب” العمل الجماعي الذي يغطّي النقص في العلم والعمل، ويقوّي الضعف، فيحيله إلى قوة.

كانت أهمّ وسيلة توسّلتها “جمعية العلماء” لإفساد مخطط فرنسا الشيطاني هي “المدرسة”، فهي المشاتل التي ستنبت الجيل الزاحف بالمصاحف ليذيق الأعداء الفرنسيين الحتوف.

وقد أحسن أولئك العلماء توظيف إمكاناتهم البشرية والمادية، فأمكنهم ذلك من إيصال دعوتهم إلى أقطار الجزائر، وإلى المغتربين من أبناء الجزائر في أرض عدهم، فانتشرت دعوتهم، وكثر أتباعهم بشهادة أعدائهم وخصومهم… وقال كبير من أعدائهم ما معناه إن أخطر هيأة على المخطط الفرنسي الهادف إلى “التنصير والفرنسية” هي “جمعية العلماء”.

لم تكن طريق هذه الجمعية المباركة مفروشة وَرْدًا وحريرا، بل كانت محفوفة بالمكاره من سجن، وتغريم، ونفي، وإغلاق للمدارس.. وقد تقبل أعضاء الجمعية ذلك كله بنفوس راضية، وصدور منشرحة، وثغور باسمة.. معتبرين ذلك “جهادا” في سبيل الإسلام واللغة العربية والجزائر.. و”وساما” على صدورهم.. مما أكسبهم مودّة لدى الشعب الجزائري، وتقديرا لصمودهم، وإكبارا لجهادهم، وإيمانا بمبدئهم الإصلاحي العلمي.

لقد دخل “الاصلاح” كفكرة عن طريق جريدة المنتقد ثم الشهاب، وعن طريق السّفّار إلى غليزان قبل أن يدخلها كتنظيم بعيد تأسيس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” في عام 1931. وكان حامل لواء الإصلاح والمبشر به والداعي إليه هو الشيخ جلول بوناب منذ عام 1928، وقد عانى هذا الشيخ ما عانه كل مصلح من قبله.. فشياطين الإنس يضيقون ذرعا بالإصلاح والمصلحين فيبطشون بهم.. ولكن الله – عز وجل- كتب أن العاقبة لأهل الخير، وكتب أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

لقد رصد الأستاذ الفاضل محمد مفلاح نشاط هذه “الجمعية”، ذات الأصل الثابت، والفروع الطيبة في مدينة غليزان وما حولها في كتاب من أربعة فصول.

كان قادة “الجمعية” واعين لأهمية منطقة غليزان، فتردد عليها الإمام ابن باديس، والإمام الإبراهيمي الذي كان مكلفا بشؤون الجمعية في الغرب الجزائري، كما زارها الشيخ العربي التبسي، ومحمد خير الدين.

وممن عمل من أعضاء الجمعية في غليزان الشيوخ معمر حني، وعبد القادر الياجوري، ونعيم النعيمي، وعلى المغربي، وباقي بوعلام، ومحمد الصالح رمضان، وما منهم إلاّ له مقام معلوم في الجمعية..

ومن مؤسسات الجمعية في غليزان مدرسة الفتح، ونادي الإيمان، ومسجد أطلق عليه فيما بعد اسم الشهيد الشيخ العربي التبسي الذي حرّك همم الغليزانيين بعد فتور هممهم في تشييد المسجد بقوله: “لقد بنى اليهود بيتهم، والنصارى كنيستهم، وشيد الفجّار حاناتهم ومخامرهم، وأنتم ضاقت بكم الأرض بما رحبت فلم تتوصلوا إلى بناء مسجد تؤدّون فيه صلواتكم أحرارا”. (ص130).

من التلاميذ الذين درسوا في مدرسة جمعية العلماء ونبغوا محمد اسياخهم الفنان التشكيلي المعروف، والدكتور حنفي ابن عيسى، أستاذ علم النفس في جامعة الجزائر، والأستاذ الأزرق ابن علو الذي تقلد عدة مناصب دبلوماسية في منظمات عالمية، وقد كان هذان الأخيران من طلبة معهد الإمام ابن باديس في قسنطينة.. كما كان من طالباتها جلول عبو بدرة التي صارت فيما بعد معلمة وقال لها الإمام الإبراهيمي لما زار القسم الذي كانت تدرّس فيه: “أنت إن شاء الله امرأة المستقبل”. (ص 115).

شكرا للأستاذ محمد مفلاح على جهوده، وندعو له بالمزيد، كما نرجو إخواننا في شعب جمعية العلماء عبر الوطن أن يسجلوا نشاطها كل من ولايته لتعرف الأجيال في المستقبل من كان يبني ومن كان “يلعب ويخوض مع الخائضين”.

مقالات ذات صلة