الرأي

“حارس البوابة” المانع لتفكيك الدولة الوطنية

حبيب راشدين
  • 1565
  • 5
ح.م

نفس العائلة العلمانية الحداثية المرتهنة للغرب، والإسلامية الإخوانية المرتمية في ما يشبه “ولاية الفقيه” العثمانية الطورانية التي راودتنا في الشهور الثمانية المنصرمة من الأزمة على مغامرة الدخول في مرحلة انتقالية عادمة للاستقرار، منتجة للفوضى، هي التي قادت الجارة تونس إلى طريق مسدود، بمؤسسات حكم هشَّة فاشلة، ووضع اقتصادي اجتماعي وأمني كارثي، هو في طريقه إلى صناعة بؤرة جديدة حاضنة للفوضى، تضاف إلى بقية البؤر الساخنة المتفجِّرة المحيطة بالجزائر.

لسنا اليوم بحاجة إلى استحضار نماذج مُحبطة فاشلة لما يسمى بـ”الانتقال الديمقراطي” من المشرق أو حتى من أوروبا الشرقية، وبين أيدينا تجربة الأشقاء في تونس، وقد اختارت النخبة فيها مغامرة المسار الانتقالي بجميع أدواته التقليدية، بدءا بالهيأة الرئاسية وحكم الترويكا، والمجلس التأسيسي، وصياغة دستور جديد، والدخول في توافقات ضد الطبيعة بين عائلات سياسية من الهامش، هي على طرفي نقيض، مع انفتاح سريع على رموزٍ من النظام الساقط، أعيد تدويرُها تحت عباءة “نداء تونس”، قبل أن يعاد رسكلتُها في حزب “قلب تونس”.

خروج التونسيين في آخر استحقاق رئاسي وتشريعي بمجلس نيابي مفكك، غير قادر على تصدير حكومة متماسكة، مؤهلة لإدارة أزمة مركَّبة متنامية، ورئاسة قد تؤول غدا إلى شخصية نكرة بلا قاعدة اجتماعية، أو إلى رجل كان قبل يومين في السجن تحت مساءلة قضائية بالفساد وبتهم تبييض الأموال، وبمنظومة حكم ما تزال عاجزة عن استكمال بناء بقية مؤسساتها وعلى رأسها المحكمة الدستورية المغيَّبة، بل هي اليوم في ظل التوليفة النيابية الجديدة، أعجز ما تكون حتى في بناء توافقات مرحلية لإصدار تشريعات تحتاج إلى أغلبية الثلثين، وقد تفشل حتى في التوافق على الميزانية القادمة.

وبقدر ما كان هدمُ نظام الحكم الاستبدادي عملية سهلة ميسَّرة، لم تكن بحاجة لا إلى تدخل عسكري أجنبي، كما حصل في العراق وليبيا، ولا حتى إلى ثورة شعبية عنيفة أو إلى حرب أهلية، فإنَّ إعادة بناء الدولة التونسية صار مرتهنا اليوم لحسابات كيانات حزبية قادمة من الوعاء الليبرالي العلماني المتوحِّل في أساطير الحداثة الغربية، وقوى إسلامية اخوانية مرتهنة لمشروع عابر للقوميات والأقطار، قد اختطفت قيادته الإقليمية تركيا الطورانية، الحالمة باستعادة المجد العثماني على حساب الشعوب العربية في المشرق وفي أيالاتها السابقة في المغرب الكبير.

وربما تكون التجربة الانتقالية التونسية التي غابت عنها القوى الوطنية المستضعَفة أصلا زمن حكم النظام البورقيبي منذ الاستقلال، هي التي أغرت نفس العائلة العلمانية والإسلامية في الجزائر على الرهان على مرحلةٍ انتقالية تمنحها فرصة الإجهاز على القوى الوطنية التي أضعفتها العشريةُ الاستئصالية، وأنهكتها السنوات العجاف من حكم العصابة المختطِفة لموقع الرئاسة، وتسلل عصابة الأوليغارك لقلب السلطة ومؤسساتها في الواجهة.

سقوط واجهة الحكم بعد ترحيل الرئيس بالمادة 102 لم يتبعه في الحالة الجزائرية سقوط الدولة كما حصل في تونس، وقبلها ما نُفذ بيسر في ليبيا والعراق، لوجود حارس بوابة اسمه “الشعب وجيشه” الحاضن للفكر الوطني الغالب، سواء في الذاكرة الجمعية لشعب قد أعادت توليده ثورة التحرير المجيدة، وجيشٌ وطني شعبي اشتغلت قيادته في العقدين الأخيرين على تطهير صفوفه من بقايا ضباط فرنسا، قبل أن تستعيد دورها التاريخي كقوَّة حامية للفكر الوطني النوفمبري المستضعَف في المشهد السياسي السلطوي المختطَف، معادلة غُيِّبت في حسابات القوى التي أرادت تسخير الحَراك الشعبي لصالح مغامرة الانتقال خارج الدستور، والهروب من استحقاق الصندوق الممرّ الوحيد المتاح في أيِّ مسار ديمقراطي لتجسيد السلطة التأسيسية للشعب.

مقالات ذات صلة