-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حتّى لا يغيّرونا!

سلطان بركاني
  • 474
  • 0
حتّى لا يغيّرونا!

ممّا يشدّ الانتباه في تداعيات الحرب الصهيونية على غزّة، أنّ الشعوب الغربية في أمريكا وبريطانيا وإيرلندا ودول غربية أخرى، خرجت في مظاهرات حاشدة، بمئات الآلاف، تحمل أعلام فلسطين، وتندّد بالإبادة التي يتعرّض لها سكّان غزّة، رافضة الأكاذيب التي يروج لها الإعلام الأمريكي الرسميّ والخاص الموجه تبعا للأكاذيب الصهيونية، في الوقت الذي اكتفت فيه أكثر الشعوب المسلمة بالحولقة وتهيّأت للتفاعل مع كأسي آسيا وإفريقيا لكرة القدم، والأكثر غرابة من هذا أن تنتدب دولة جنوب إفريقيا النصرانية لملاحقة الكيان المجرم أمام محكمة العدل الدولية، في الوقت الذي عجزت فيه 57 دولة مسلمة عن القيام بخطوة مماثلة!
المجتمعات الأوروبية ظلّت عقودا من الزّمن مكبّلة بأكاذيب الإعلام الذي تسيطر عليه الشركات الموالية للكيان الصهيونيّ، ولذلك، كانت قضية فلسطين بالنسبة لأكثرها، قضية جماعات مسلّحة ترهب “الإسرائيليين” وتعكّر صفو العلاقات بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”! لكن مع شيوع وسائل التواصل التي شبّ بعضها -تيك توك نموذجا- عن طوق النظام العالمي، عرف الأوروبيون والأمريكيون أنّ ما كان قناعة راسخة ليس في حقيقة الأمر سوى رواية كاذبة خاطئة، تدحضها رواية صادقة تتّسق مع الأحداث الجارية التي توثّقها عشرات الآلاف من الصور والفيديوهات؛ رواية تؤكّد عدالة القضية التي تقاتل لأجلها المقاومة ويدفع الشعب الفلسطينيّ ثمنها باهظا، وهي في الأساس قضية إنسانية يتعيّن على شعوب العالم الحرة أن تقف فيها مع الضحية ضدّ الجلاد ومع صاحب الأرض ضدّ المحتلّ، وتناوئ سياسات حكوماتها الداعمة للكيان الصهيونيّ المحتلّ، خاصّة أنّ هذا الدّعم يستنزف جيوبهم من خلال الضرائب الباهظة التي يدفعونها.
الكثير من هذه الشعوب تدرك أنّ مظاهراتها ولو كانت بمئات الآلاف لن تغيّر كثيرا من سياسة حكوماتها الداعمة للكيان المغتصب، ولكنّها مع ذلك تصرّ على الخروج وعلى تسجيل مواقفها، قياما بالواجب الإنسانيّ الذي تمليه الضّمائر الحيّة، والحقّ أنّ كلّ من خبر المجتمعات الغربية يشهد بحقيقة أنّها مهيّأة لقبول الحقّ ونصرته دون خوف أو تردّد متى ما أزيحت عنها غشاوة الكذب والتدليس التي يمارسها إعلام الدجال الذي تتحكّم فيه الصهيونية العالمية المسيطرة على دواليب ما يسمّى الاقتصاد الحرّ في الغرب، وهذا التوجّه الملموس لدى الغربيين قديم، وليس وليد القرن العشرين، وقد سجّل التاريخ أنّ كثيرا من الأمريكيين في أواسط القرن الماضي كانوا يؤيّدون الفيتناميين في حربهم التحررية من الاستعمار الأمريكيّ (1955- 1975م)، وممّا يروى في هذا الصّدد، أنّ رجلا أمريكيا كان أثناءَ حربِ فيتنام يقفُ مساءَ كلِّ يومٍ وحده أمام البيت الأبيض، حاملاً شمعةً مُشتعلة، مناديا بوقف العدوان الأمريكيِّ على فيتنام، مدّة سنوات متوالية، حتّى وضعت الحرب أوزارها، لم يغبْ ولم يكلّ ولم يملّ، وحينما سأله أحد الصحفيين: سيدي، هل تعتقد أنَّ وقوفكَ هنا بشمعتك، واحتجاجك كلّ ليلة، يمكنُ أن يُغيِّرَ شيئاً؟ أجاب الرجل: “أنا لا أقفُ هنا كلَّ ليلةٍ لأُغيّرَ شيئاً، أنا أقفُ هنا حتى لا يُغيّروني! لن أسمحَ لاندفاعهم المجنون أن يقتلَ إنسانيتي، سأبقى أعرفُ الحقيقةَ، وأقولُ الحقيقةَ، سأقومُ بدوري الصّغير هذا كلَّ يومٍ محاولاً البقاء إنساناً”.
هذا ما يفعله الضّمير الحيّ بصاحبه، حتّى ولو كان كافرا أو ملحدا لا يؤمن بالخالق ولا بالحساب؛ أفلسنا نحن المسلمين أولى بحياة الضّمائر خاصّة ونحن نجد في ديننا أنّ السّعي في قضاء حاجة المسلم أحبّ إلى الله -تعالى- من الاعتكاف ومن قيام الليل وصيام النّهار، وأنّه -سبحانه- يجزي عبده الذي يعين أخاه، في الدّنيا والآخرة، ونجد أنّ نصرة المظلوم من أعظم القربات إلى الله تعالى، ونجد في تاريخنا كيف كان خلفاء المسلمين يجيّشون الجيوش لنصرة المظلومين ولو لم يكونوا من المسلمين؟
أغلب المسلمين يتفاعلون مع قضايا إخوانهم، ويتألّمون لجراحهم، ويصرخون بأعلى أصواتهم يستجدون حكام الأمّة ليفعلوا شيئا، لكنّهم لا يلبثون طويلا حتى يصابوا بالفتور، وتصبح أخبار الإبادة عادية في يومياتهم، وربّما يمرّ الواحد منهم على خبر قتل العشرات في قصف صهيونيّ، فيقطّب جبينه ويحرّك لسانه ببعض الكلمات، ثمّ يمرّ بعدها مباشرة إلى أخبار كرة القدم ونتائج مباريات هذا الدوريّ أو ذاك، وربّما يمرّ على منشورات ومقاطع الضّحك فيضحك ملء شدقيه، وينسى ما مرّ به من أخبار إخوانه المكلومين!
نحن في حاجة لأن ندرك أنّ نصرتنا لقضية غزّة ولقضايا المسلمين الأخرى، هي دماء حياة نضخّها في قلوبنا حتّى لا تألف الخذلان ويتبلّد فيها الإحساس، مع كثرة المعاذير التي تساق في تبرير القعود عن نصرة المظلومين.. وليس يصحّ أبدا أن يقارن كلّ واحد منّا حاله بمن هم دونه في درك الخذلان، ويقضي أوقاته بهجائهم، وهو الذي يقدر على تقديم أكثر ممّا قدّم، كلّنا مسؤولون، وكلّنا مؤاخذون بحسب تقصيرنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!