-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دبابات الفكر الضرورية لبلادنا

دبابات الفكر الضرورية لبلادنا

الانتقال من ردة الفعل إلى الاستباق والاستحداث، وبناء القاعدة التاريخية قبل الانطلاق، وجعل الإمكانيات والقدرات التي تزخر بها بلادنا أدوات خلاقة للثروة والتقدم لا وسائل قاتلة للإبداع والتطور، وضبط المفاهيم المتعلقة بالدولة والثورة والديمقراطية والإسلام جميعها مقدمات ضرورية لبناء رؤية منسجمة من أجل الجزائر وقادرة للصمود في المستقبل، ونحن لسنا أفضل من كثير من الدول التي صاغت مثل هذه الرؤية إن في العالم المتقدم أو الصاعد. لقد أحصينا عشرات الدراسات الشاملة التي تم تخصيصها لمستقبل بلدان الشرق والغرب من ماليزيا إلى المغرب ومن السويد إلى جنوب إفريقيا، ناهيك عن تلك الدراسات القطاعية التي اهتمت بمجال من المجالات الحيوية في هذا البلد أو ذاك لتطرح كيفية استغلاله والاستفادة منه ضمن رؤية واضحة مستقبلية لا شك فيها.

وقد لفت انتباهنا تجربة السويد التي كانت من أول الدول في العالم التي أنشأت كتابةَ دولة للمستقبل، وطورت البحث في هذا المجال لما له علاقة بتحديد آفاق العمل في كافة القطاعات، دون أن ننسى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد رائدة الدول في مجال الدراسات المستقبلية ليس من خلال هيئات حكومية فقط، إنما من خلال مؤسسات بحثية تسميها دبابات الفكر Think  Tanks . وقد استحوذت على معظم الموجود منها في العالم حيث بيّنت دراسة “ماك قان” McGann عن هذه المراكز إلى غاية سنة2007 وجود 5080 منها 1776 في الولايات المتحدة وحدها. ولم تحظ بلادنا بأي مركز من هذا النوع في دراسته بالنظر إلى الشروط التي وضعها لإدراج مؤسسة ما ضمن هذا الصنف من المؤسسات.

 وغير بعيد عنا فرنسا التي ما فتئت تطور مدرستها في الاستشراف بمناهجها وأدواتها البحثية وبرامجها المعلوماتية. وقد كانت لنا فرصة لترجمة أولى المؤلفات الفرنسية المهتمة بهذا المجال إلى اللغة العربية في سنة 2010. أي كتاب “الاستشراف الاستراتيجي للمؤسسات والأقاليم” الذي مكّننا من معرفة إلى أي مدى تحتاج بلادنا إلى الاهتمام بهذا الجانب ذي الأهمية القصوى في رسم أية رؤية مستقبلية، لأننا عندما نصل إلى مرحلة معينة من الإعداد لها سنكتشف حاجتنا الماسة لكافة المناهج والتقنيات المعتمدة في هذا المجال. ولقد أحصينا لحد الآن أكثر من 37 تقنية مساعدة على تصور المستقبل وبناء الرؤية. بلغ مجمل صفحاتها أكثر من 500 صفحة معتمدة من قبل أكبر مشروع مستقبلي عالمي هو “مشروع الألفية الثالثة” الذي نحن في حاجة إلى متابعة أهم النتائج التي وصل إليها في مختلف القطاعات التي اعتبرها قطاعات إستراتيجية ستحكم مستقبل العالم في الخمسين سنة القادمة.

نحن في حاجة إلى كل هذا بعد أن نكون قد قمنا بترتيب البيت أولا، وعبّرنا عن استعدادنا لبلورة رؤية ليس من أجل اليوم أو الغد القريب إنما من أجل جزائر الألفية الثالثة التي سيعيش فيها أبناؤنا وأحفادنا إن شاء الله.

لقد حز في نفسي وأنا أتابع المحاولات القليلة التي تمت في الجزائر منذ السبعينيات للانتقال من مستوى الإعداد للانطلاق إلى الشروع فيه بالفعل. لقد علمت أن رئاسة الجمهورية قامت في منتصف سبعينيات القرن الماضي بمحاولة لرسم رؤية للجزائر سنة 2000 في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، ولكنها انتهت بانتهائه على أحسن تقدير. كما كانت لنا محاولة في بداية التسعينيات لبناء رؤية مستقبلية للجزائر سنة 2005 قضت عليها العشرية السوداء قضاء مبرحا ولم نعد نسمع عنها أي أثر. وتعلقت أكثر المحاولات جدية في هذا المجال بجانب واحد من الاستشراف هو الاستشراف الإقليمي، حيث تم إعداد تصور للإقليم إلى غاية سنة 2030 سُمي بالإستراتيجية الوطنية لتهيئة الإقليم SNAT من قبل وزارة البيئة وصودق على المشروع في البرلمان واعتبر من أهم الإسهامات في معرفة مستقبل الجزائر إلا أنه تم بمعزل عن القطاعات الأخرى ومن غير نظرة شاملة للأبعاد الأخرى غير الإقليم التي تعد من أساسيات بناء القاعدة الصلبة لرؤية مستقبلية. ولعل زوار العاصمة اليوم يرون بعض اللوحات التي تزين طرقها والتي تتحدث عن مستقبلها سنة 2029 ـ المخطط الاستراتيجي للجزائر العاصمة 2029ـ أيضا من غير أن يكون ذلك مندرجا ضمن رؤية شاملة وتشاركية قادرة على جلب التفاعل الشعبي معها لكي تكون بالفعل وسيلة من وسائل النهضة الحقيقية. أي أننا في كل مرة نلامس بناء الرؤية ولا نحقق ذلك لأننا لا ندرك أهميتها وحاجتنا إليها لحل أكثر من مشكل سنعيشه في المستقبل.

ولعل هذا ما حدانا إلى التنويه في هذا المقال بتجارب دولية شاملة في هذا المجال نحن في حاجة إلى استلهام العبرة منها، كما نحن في حاجة إلى الإلمام بكافة التقنيات والمناهج التي تساعدنا على القيام بهذا العمل بصفة علمية بعيدا عن الحسابات والسياسات الضيقة التي لا تنم سوى عن نظرة ضيقة شخصية في غالب الأحيان مرتبطة بالحاضر وحده وأحيانا بالحاضر الضيق المرتبط بالمحيط المباشر للمسؤول أو الفريق المؤهل لإطلاق مثل هذه المبادرات.

ولعل هذا ما دفعنا إلى مثل هذا الطرح التحسيسي بالدرجة الأولى لحاجتنا لمثل هذه الأدوات إذا كنا بحق ننظر بعيدا وبشكل واسع ومختلف لما ينتظرنا في المستقبل خاصة ونحن اليوم نريد أن نؤكد أن “التمكن من آليات التحليل الاستشرافي، وآليات معرفة الاتجاهات، والتوقعات وأشكال القطيعة المحتملة” أمر ضروري يأتي في المرتبة الثانية بعد الإجابة عن أسئلة المدخل السابقة الذكر وبالأخص ذلك السؤال المفتاحي القائل من نحن؟ القائم على تفسير مفهومنا للدولة والدين والخيارات الأساسية التي ينبغي أن توضّح خارج نطاق الفهم الضيق للأفراد أو الاتجاهات الأيديولوجية، أي ضمن الطرح الكلي الذي من شأنه أن يحقق التفاعل مع الجماهير لأجل تحقيق أهدافها، كشرط من شروط النجاح.

 

لقد قيل عن الأمريكيين إن لديهم قدرة لاستشراف المستقبل أي لصناعته وليس للكشف عنه تفوق الخمسين سنة، ولديهم قدرة على جعل تفوقهم العسكري على أي جيش في العالم يزيد عن العشر سنوات، وهم يعلمون بأنهم سيستمرون في التفوق إذا لم تتمكن أي من الدول الأخرى من استباق التطور الذي سيحصلون عليه واستحداث مستقبل لها كما تريد خارج نطاق السيناريو الأمريكي أو سيناريو حلفائه… أما إذا تمكنت إحداها من ذلك، فإنها ستسير قدما نحو الأمام وستتمكن من الخروج من سيطرة القوى الكبرى. وإذا أردنا أن نكون أحد المرشحين للخروج من الحالة التي نحن فيها، وبأن نصنع مستقبلنا خلال الخمسين سنة القادمة كما نريد، ينبغي أن ننطلق الانطلاقة الصحيحة التي ستمكن المجتمع الدولي من الاعتراف أننا قوة بشرية واقتصادية ومالية صاعدة، كما اعترفت بدول “البريكس” الآن… عند ذاك فقط نكون قد حققنا ما ينبغي تحقيقه، ونكون بصدد بناء الدولة القوية التي لا تزول بزوال الرجال حقا، والتي لا يعلو فيها أي من الرجال والنساء على الآخرين إلا بما يقدمون من عمل صالح وبناء لبلادهم، ولو كان ذلك عبر ركوب دبابات للفكر تسير جنبا إلى جنب مع دبابات الميدان….

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • يونس05

    الميدان...ماذا يحدث في الواقع؟وكيف يمكن أن يتحول الى واقع أفضل هذا ما نريده جميعا؟ دوختنا مقالاتك (النظرية) التي كنت تكتب سنوات نهاية القرن الماضي يا استاذ.حال واقعنا اليوم أسوأبكثير من ذلك الوقت -اجتماعياوفكريا-،،التدمير الذاتي الذي طغى على كل سلوكاتنا أوصلنا الى ما نحن عليه ولست بحاجة الى التفصيل كي لا أقع في (النظري) ولا تكفيني ألوف الصفحات لتفصيله،كل شيء اليوم "مهرود" التربية ،الأخلاق، المعاملات،كل مجالات حياتنا نخرها السوس وعلينا أن نهيء تصورنا لواقع أشد مرارة...( النظريات) كم يلزمها من السنوات كي تجد مجالا للتطبيق ..ماالذي ينقصنا-عملي

  • ابراهيم غمري

    نحن في حضارة ناقص واحد(-1) و الغرب انتقل من حضارة الصفر(0) الى حضارة زائد واحد(+1)
    عدد ناقص واحد(-1)غير موجود لأنه لاينتمي للمجموعة الطبيعية, نحن ما زلنا نتغنى بحضارة(-1),ونستهلك أفكار اشياء حضارة الصفر(0),قمنا عام1858م أول محاولة للنهضة لندخل حضارة الصفر(0),أي للمجموعة الطبيعية ومازلنا الى يومنا هذا في حضارة ناقص واحد(-1),أي في الجماعة السالبة.كيف نلحق بحضارة زايد واحد (+1)؟ونحن منشغلون بما يفرقنا أكثر بما يجمعنا.
    يجب أن نعمل بسرعة الضوء و لمدة 100سنة لنلتحق بحضارة (+1) وهم في حضارة ( ن+1)

  • مهزوم

    يا استاذنا سليم لماذا تحاول القفز على الواقع,مثلك مثل ذلك الشخص الذى يحاول ان يصل الى استنتاج علمى مبنى على رقية درويش, وكأن الجزائر بلد مؤسسات وحكم راشد ومسير يطريقة عصرية يمكن الاعتماد فيه على الاحصائيات والارقام والمعطيات الصحيحة لاجراء دراسة مستقبلية ورؤية استشرافية.ولنفرض ان اطارا ما قام بدراسة علمية لمشكل المياه او الانتاج الفلاحى او الكهرباء هل فعلا هناك متابعات جدية ,واهتمام صادق,وتكفل بالموضوع من قبل الهيئات العليا, اشك فى ذلك فكل شىء مسيس ويدخل فى اطار الحملات المؤقتة والشعبوية.

  • بدون اسم

    قناة مشكورة لكن لاتتحدث عن الخدمة الوطنية