الرأي

سوق‮ ‬المجلات‮ ‬الجامعية‮.. ‬متى‮ ‬نوقف‮ ‬المهزلة؟

أطلعني أحد الزملاء، قبل أيام بحماس فياض، على مجلة أصدرها زميلٌ مشترك لنا في إحدى الجامعات الحديثة النشأة، مشيرا إلى أنها أصبحت مصنفة تصنيفا متميّزا، وتمت تهنئة طاقمها من قبل المديرية العامة للبحث العلمي، وعندما ألقيتُ نظرة على موقع هذه المديرية للتأكد من الخبر، لاحظت أن المديرية خصصت صفحة كاملة للمجلات الوطنية التي تصدرها مختلف المؤسسات الجزائرية، ويقدّم الموقع قائمة هذه المجلات “الأكاديمية المحكمة” مع أسماء المؤسسات التي تصدرها، إضافة إلى أرقامها التسلسلية المعيارية الدوليةISSN .

 

262 ‭ ‬مجلة‮ ‬تصدرها‮ ‬جامعاتنا

لقد اندهشت لضخامة عدد هذه المجلات التي تصدرها هذه المؤسسات، إذ بلغ هذا الرقم إلى حد الآن 262 مجلة! نلاحظ أن الموقع يطلب من كل مؤسسة لها مجلة تسجيلها في هذه القائمة.. ويبدو أن القائمة لم تكتمل بعد! هل يصدق القارئ أن هناك جامعاتٍ لها 12 مجلة، وأن جامعات أنشئت‮ ‬بالأمس‮ ‬القريب‮ ‬صار‮ ‬لها‮ ‬6‮ ‬مجلات،‮ ‬وأن‮ ‬ثمة‮ ‬مركز‮ ‬بحث‮ ‬يصدر‮ ‬10‮ ‬مجلات‮.. ‬وأن‮ ‬مدرسة‮ ‬عليا‮ ‬لا‮ ‬يزيد‮ ‬عدد‮ ‬طلابها‮ ‬عن‮ ‬بضعة‮ ‬آلاف‮ ‬طالب‮ ‬تنشر‮ ‬12‮ ‬مجلة‮!‬؟

وفي ظل هذا الوضع يحق للمرء أن يطرح سلسلة من التساؤلات عندما يرى هذا العدد الضخم من الإصدارات الدورية: ما مقدار الميزانية التي تكلفها هذه المجلات (رواتب طاقم المجلة، ونشرها، وطبعها، وتوزيعها…)؟ كم عدد قراء هذه المجلات؟ ما مدى الفائدة التي تقدّمها للمواطن؟ ما الدافع الذي يجعل الإدارات والزملاء يلجؤون إلى إصدار هذه المجلات؟ من ينشر في هذه المجلات؟ لماذا يختار هؤلاء النشر في هذه المجلات بالذات؟ هل ينشرون في مجلات أخرى أجنبية؟ من هم المحكّمون والمقيّمون في هذه المجلات؟ من يقوم بالمراجعات اللغوية والعلمية والتقنية؟‮ ‬ما‮ ‬هي‮ ‬دور‮ ‬النشر‮ ‬والطباعة‮ ‬المؤهلة‮ ‬لنشر‮ ‬مثل‮ ‬هذه‮ ‬المجلات؟‮ ‬كيف‮ ‬ينظر‮ ‬الخارج‮ ‬إلى‮ ‬تلك‮ ‬المجلات؟‮ ‬ما‮ ‬مدى‮ ‬فعاليتها‮ ‬في‮ ‬نشر‮ ‬العلم‮ ‬والمعرفة‮ ‬والبحوث‮ ‬الجادة؟‮…‬

يُعَيَّن عندنا الأستاذ مسؤولا اليوم في مؤسسة جامعية أو يُرَقَّى، فيُصدر بين عشية وضحاها، مجلة “أكاديمية محكمة” يكتب فيها من هبّ ودبّ من كلام؛ أيّ كلام، وتُعرض أعداد المجلة في نشاطات الجامعة وإنجازاتها ضمن المهرجانات العلمية الفولكلورية، كما يستثمر كتّاب المجلات‮ ‬تلك‮ ‬المقالات‮ ‬للحصول‮ ‬على‮ ‬تربصات‮ ‬في‮ ‬الخارج،‮ ‬وترقيات‮ ‬زائفة،‮ ‬والإذن‮ ‬بمناقشة‮ ‬رسائل‮ ‬جامعية‮ ‬تكاد‮ ‬تكون‮ ‬خاوية‮.‬

من المعلوم في الدول المتقدمة التي نتعلم منها التقاليد الجامعية والأكاديمية الحقة، أن الهيئة أو المؤسسة التي تصدر مجلة “أكاديمية محكمة” هي تلك التي يثبت أساتذتها أنهم باحثون من طراز راق، سبق لهم أن نشروا بحوثهم في مجلات راقية في بلدان وقارات مختلفة، عندما يمروا بهذا المحكّ يفكرون في إصدار مجلة يتناوب على تسييرها عديد الأساتذة للحفاظ على رقيّها وسمعتها. ذلك حال المجلات الجادة، ولا ننكر في هذا السياق -حتى لا نجلد الذات أكثر من اللزوم- أن في الخارج أيضا صارت سوق المجلات الجامعية تشبه، في جانب منها، سوق الخردوات؛‮ ‬ففيها‮ ‬الغث‮ ‬والسمين،‮ ‬وما‮ ‬أكثر‮ ‬الغث‮ ‬فيها‮.‬

أما نحن، فيُعَيَّن عندنا الأستاذ مسؤولا اليوم في مؤسسة جامعية أو يُرَقَّى، فيُصدر بين عشية وضحاها، مجلة “أكاديمية محكمة” يكتب فيها من هبّ ودبّ من كلام؛ أيّ كلام، وتُعرض أعداد المجلة في نشاطات الجامعة وإنجازاتها ضمن المهرجانات العلمية الفولكلورية، كما يستثمر‮ ‬كتّاب‮ ‬المجلات‮ ‬تلك‮ ‬المقالات‮ ‬للحصول‮ ‬على‮ ‬تربصات‮ ‬في‮ ‬الخارج،‮ ‬وترقيات‮ ‬زائفة،‮ ‬والإذن‮ ‬بمناقشة‮ ‬رسائل‮ ‬جامعية‮ ‬تكاد‮ ‬تكون‮ ‬خاوية‮.‬

 ونحن هنا لا نستثني أحدا ممن لهم هذه الممارسات غير العلمية في كل جامعات القطر، وإنما نستثني فئة قليلة ممن يدركون فداحة هذا الوضع وأدانوا تلك السلوكات التي أفسدت عندنا تقاليد النشر المعمول بها في الجامعات التي نتخذها مثلا نقتدي به، والأدهى من ذلك أننا نرى جيلا جديدا من سلك التعليم الجامعي في مؤسساتنا صار لا يعي خطورة هذا التعاطي مع الشأن العلمي، بل يؤمن إيمانا راسخا بأن ما يجري أمرٌ طبيعي لا غبار عليه… كمن دَرَج على العيش يوميا في الرداءة حتى أصبح يعتقد أن غير ذاك الجو جوٌ غير طبيعي. تلك هي الكارثة التي استفحلت‮ ‬في‮ ‬الوسط‮ ‬الجامعي‮!‬

 

مجلات‮ ‬يندى‮ ‬لها‮ ‬الجبين

ومن هذه المجلات الجامعية الموصوفة بـ”المُحكَمة” ما لا يمكن أن تجد سطرا واحدا بدون خطأ لغوي في مقدمتها، فما بالك في محتواها، ومن كتابها من رُفِضت مقالته في مجلة محترمة بسبب أخطاء فادحة تم توضيحها من قبل المحكّمين فلم يجتهد هذا الباحث حتى في تصويب تلك الأخطاء البارزة، وفضّل نشر المقالة بمساوئها دون تعديل في مجلة الجامعة التي ينتسب إليها، وليس هذا فحسب، فقد نال المؤلف بفضل مقالته شهادة الدكتوراه، ثم رُقّي إلى درجة أستاذ، ثم إلى إداري بارز يتحكم في رقاب القوم ويصول ويجول بدون رادع! 

من هذه المجلات الجامعية الموصوفة بـ”المُحكَمة” ما لا يمكن أن تجد سطرا واحدا بدون خطأ لغوي في مقدمتها، فما بالك في محتواها، ومن كتابها من رُفِضت مقالته في مجلة محترمة بسبب أخطاء فادحة تم توضيحها من قبل المحكّمين فلم يجتهد هذا الباحث حتى في تصويب تلك الأخطاء‮ ‬البارزة،‮ ‬وفضّل‮ ‬نشر‮ ‬المقالة‮ ‬بمساوئها‮ ‬دون‮ ‬تعديل‮ ‬في‮ ‬مجلة‮ ‬الجامعة‮ ‬التي‮ ‬ينتسب‮ ‬إليها‮. ‬

ونحن إذ ندين هذه السلوكات الخطيرة حول التلاعب بموضوع النشر الأكاديمي، لا ندعو إلى التقوقع وغلق باب النشر، فالجامعات ينبغي أن تكون منارات للعلم ومنابرَ لبثه على كل المستويات، ومن سبل نشر العلم والمعرفة إصدار مجلات ونشريات لا نطلق عليها صفات “الأكاديمية” و”المُحكَمة‮” ‬و‮”‬الأصيلة‮” ‬ولا‮ ‬نعتمدها‮ ‬في‮ ‬الترقيات‮ ‬الأكاديمية‮ ‬بالطرق‮ ‬المتبعة‮ ‬حاليا‮.‬

في زمن مضى، عند بداية العشرية الحمراء، كان زملاء في جامعة باب الزوار قد أصدروا مجلة في الرياضيات، عنونوها بـ”المجلة المغاربية للرياضيات”، وما أن انطلقت حتى حلّت بالبلاد موجة “الهجرة إلى الشمال” فما كان لهؤلاء الزملاء إلا أن رموا بمجلتهم في أحضان المدرسة العليا للأساتذة بالقبة، وكان على رأس منقذيها من المدرسة الأستاذان يوسف عتيق وعبد الحفيظ مقران، كانت المجلة قد أعادت الانطلاق من الصفر، ووضع لها “أسلوبها” الخاص في التصفيف، وعمل الزملاء ليلا نهارا مع طاقم من المتطوعين سنوات طوال، ووُضعت لها تدريجيا شبكة من المحكمين‮ ‬والمقيّمين‮ ‬العالميين‮ ‬حتى‮ ‬أصبحت‮ ‬في‮ ‬مطلع‮ ‬القرن‮ ‬العشرين‮ ‬مجلة‮ ‬ذات‮ ‬صيت‮ ‬طيب‮ ‬خارج‮ ‬الوطن‮ ‬وداخله‮. ‬

واللافت أن البريد الذي كان يصلها من الداخل والخارج على صندوق بريد المدرسة يفوق كمية البريد الذي كان يصل إلى مصالح المدرسة الأخرى، كان كل ذلك عملا تطوعيا محضا من قبل الجميع، لم يعره أحدٌ من القائمين عن المدرسة اهتماما يُذكر، وقد لا يصدق القارئ أنه كلما كان ينتهي إعداد عدد من المجلة ويحين وقت إصداره، كان الزملاء يقومون بحملة “تسوّل” لطلب أهل البرّ والإحسان ليدفع إلى المطبعة تكاليف الطبع! وكانت نهاية هذا العمل الجليل انقطاع هذه المجلة عن الصدور إلى اليوم، بعد دخول الألفية الثالثة لأنه من الصعب أن يفوق العمل التطوّعي‮ ‬البحت‮ -‬الذي‮ ‬يأخذ‮ ‬من‮ ‬وقتك‮ ‬يوميا‮ ‬نصيبا‮ ‬معتبرا‮- ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬عقد‮ ‬من‮ ‬الزمن‮.‬

 

مجلات‮ ‬تهدر‮ ‬المال‮ ‬العام

سقنا هذا المثال لنقول إن إصدار مجلة بالمستوى الأكاديمي اللائق في ظروفنا نحن، عملٌ مرهِق من حيث الإشراف والمتابعة ومراسلة المحكمين والوقوف على الطباعة والتوزيع والتعامل مع المؤلفين ومع المشتركين في المجلة، وحثهم باستمرار على الإسراع بإرسال التقارير… لأن مثل‮ ‬هذه‮ ‬التقارير‮ ‬أيضا‮ ‬لا‮ ‬تدفع‮ ‬المجلة‮ ‬مقابلا‮ ‬لها،‮ ‬ومن‮ ‬يبحر‮ ‬في‮ ‬هذا‮ ‬المجال‮ ‬سوف‮ ‬لن‮ ‬يجد‮ ‬إلا‮ ‬المتاعب‮ ‬تلو‮ ‬المتاعب‮ ‬إذا‮ ‬ما‮ ‬كان‮ ‬جادا‮ ‬في‮ ‬عمله‮.‬

لا نعتقد أن الموضوع يحتاج إلى المزيد من البيان فالكل -من كبار مسؤولي وزارة التعليم العالي إلى صغار مسؤولي الجامعات- يعلم أن تكاثر المجلات الجامعية بهذا الكم وبهذه الوتيرة مهزلة ينبغي إيقافها لسببين: 

أولا‮: ‬لا‮ ‬خير‮ ‬فيها‮ ‬من‮ ‬الناحية‮ ‬العلمية،‮ ‬بل‮ ‬بالعكس‮ ‬تماما،‮ ‬فهي‮ ‬تخرّب‮ ‬ما‮ ‬هو‮ ‬قائم‮ ‬من‮ ‬بعض‮ ‬التقاليد‮ ‬العلمية‮.‬

ثانيا‮: ‬فيها‮ ‬إهدارٌ‮ ‬كبير‮ ‬للمال‮ ‬العام،‮ ‬والبلاد‮ ‬في‮ ‬غنى‮ ‬عنه‮.‬

ومع ذلك، يمكن الحفاظ على القلة القليلة منها، ودعوة بعض آخر منها إلى الصدور إلكترونيا لنشر الثقافة العامّة بين المواطنين، وليس لنشر ما يصفونه بـ”البحوث الأكاديمية المُحكَمة والأصيلة”، كما ينبغي حثّ الباحثين الشباب، بوجه خاص، على النشر في الخارج لتحفيزهم على‮ ‬الجدّ‮ ‬في‮ ‬طلب‮ ‬العلم‮ ‬والرقيّ‮ ‬به،‮ ‬وليُعْتدّ‮ ‬فعلا‮ ‬ببحوثهم‮ ‬في‮ ‬أماكن‮ ‬أخرى‮. 

مقالات ذات صلة