الرأي

صلاة الاستسقاء والأرصاد الجوية!

سلطان بركاني
  • 4535
  • 19

في كلّ مرّة يُعلَن فيها عن إقامة صلاة الاستسقاء في ربوع الوطن، يطلق بعض المدوّنين على مواقع التواصل الاجتماعيّ العنان لأناملهم للاستهزاء بتوقيت الصّلاة الذي كثيرا ما يتزامن مع إعلان محطّات الأرصاد الجوية عن ترقّب اضطرابات جوية قادمة، والحقّ يقال إنّ الجهة الوصية التي لا تزال مصرّة على الأخذ بخيار مركزية صلاة الاستسقاء في بلد يوازي بمساحته قارّة بأكملها، تتحمّل مسؤولية كبيرة في فتنة النّاس بتأخّرها ومماطلتها في إحياء هذه الشّعيرة في وقتها المناسب.

الجهة المنوط بها إحياء هذه الشّعيرة، تتحمّل جزءًا من المسؤولية، لكنّ هذا لا يبرّر صنيع المستهزئين بإقبال النّاس على صلاة الاستسقاء رغم ترقّب نزول الأمطار، لأنّ شعيرة الاستسقاء -التي هي أعمّ وأشمل من ركعتين تليهما خطبتان- لا تقتصر الحكمة منها على الدّعاء بنزول المطر، فهي عربون توبة وتحلّل من المظالم، وإحسان ظنٍّ بالله وشكرٌ له، وطلب للبركة فيما يتوقّع نزوله؛ فقد يُتوقّع للمطر أن ينزل، فيهطل ولا تحلّ معه البركة، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “ليس السَّنة (الجدب) بأن لا تُمطَروا، ولكنّ السنَةَ بأن تُمطروا وتُمطروا، ولا تُنبتُ الأرض شيئا”، وربّما ينزل المطر ويحمل معه الكوارث والأزمات ويجرف المحاصيل، وقد ينزل المطر ويكون قليلا غير كاف أو في منطقة دون أخرى، وقد تتحوّل السّحب عن مسارها، لذلك يسنّ أن يدعو المسلمون في صلاة الاستسقاء بقولهم: “اللهمّ غيثا مغيثا نافعا غير ضارّ، عامًّا مجلجلا”، علاوة على أنّ التوقّعات الجوية لا تَصدُق دائما، ومعلوم أنّ المدّة قبل التنبؤ إذا زادت على أربعة أيام لم تتجاوز نسبة صحتها 40 %.

بإزاء هؤلاء المستهزئين بتوقيت صلاة الاستسقاء، هناك من شباب الأمّة الذين أشربوا الفكر الماديّ في قلوبهم، من يثير في كلّ مرّة يتحدّث فيها المتحدّثون عن علاقة القحط والجفاف بكثرة الظّلم والفساد، وعن وجوب التوبة والضّراعة إلى الله، مستشهدين بآي كثيرة من القرآن، مثل قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)) (الرّوم: 41)؛ يثير الماديون وأهل الظّاهر العصريون شبهات حول هذه الدّعوات ويتساءلون في استعلاء عن علاقة الذّنوب بالجفاف وتأخّر نزول الأمطار، ويقول قائلهم: ها هم الكفّار، يكفرون بالله ومنهم من ينكر وجوده، ويرتكبون كلّ الموبقات ولا يعرفون حراما من حلال، ومع ذلك تنزل في بلدانهم الأمطار الغزيرة، وتنبت أرضهم من كلّ الخيرات… وهؤلاء الماديون مشكلتهم الأساسية أنّهم لا يستحضرون عند كلامهم في هذه القضايا حقيقة أنّ هذه الدّنيا دار ابتلاء وامتحان، قد يعطي فيها الخالق سبحانه مِن فضله مَن أوغل في الكفر والإلحاد والفساد استدراجا وإمهالا له أو إيفاءً لحقِّ ما عنده من خير، ويَبتلي عبادا صالحين مصلحين بالحرمان، ليجأروا إليه ويزدادوا قربا منه، وليسمع تضرعهم ويرى بكاءهم.. وقد يعاقب من وقع في الذنوب القليلة ليطهّره، ويؤخّر من عليه الذّنوب الكثيرة.. وهو سبحانه قد يعطي خيره للكافر العادل ويمنعه عن المسلم الظّالم حتّى يتوب عن ظلمه ويصلح.. وبصفة عامّة فإنّ الله يعطي خيرات الدّنيا لمن آمن وعمل صالحا وأصلح في هذه الأرض، ويمنع منها ما شاء عمّن كفر وأفسد، وقد يبتلي أهل الإيمان والصّلاح بالحرمان، ويستدرج أهل الكفر والفساد بالعطاء، وبفهم هذه الحقيقة يمكن الجمع بين قول الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون))، وقوله جلّ شأنه: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون)).

أثر الذّنوب والمعاصي والظّلم في تغيّر الأحوال، أمر ظاهر لا ينكره إلا من طغت التفسيرات المادية على قلبه، وعميت بصيرته عن تلمّس ما يراه العقلاء جميعا؛ فكلّ من عايشوا عقود ما قبل الثمانينيات يدركون كيف أنّ الأحوال تبدّلت والفصول اختلطت، والجوائح والآفات كثرت، والبركة قلّت، وكلّ من شهدوا زمان الخير والبركة، يجمعون على أنّ هذا التغيّر إنّما هو بسبب قطيعة الأرحام وسوء الجوار والشحّ وتعرّي النّساء.

جميعنا نرى ونشهد كيف أنّ السّحابة العظيمة تمرّ من فوق رؤوسنا، ننتظر أن تلقي أثقالها وتمطر مطرا غزيرا مدرارا، فإذ بها فجأة تمضي وتنقشع، بينما تلقي في أماكن أخرى ما يجرف الطّرقات والسيارات ويغمر البيوت، نرى هذا وغيره عيانا في أيام انتشر فيها الوباء والغلاء.. فهل اجتمع علينا الغلاء والوباء وقحط السّماء في هذه الأيام من دون سبب؟ كلاّ والله. كلّنا أدركنا بعد أن رأينا هذه الحال أنّ الخالق سبحانه يستعتبنا.. الرّحمن الرّحيم يريد منّا أن نستغفره ونتوب إليه من ذنوبنا ليرسل السّماء علينا مدرارا.. يقول سبحانه وتعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون))، ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)).

السّماء أمسكت مطرها بسبب ذنوبنا التي بلغت عنان السّماء؛ بسبب إضاعتنا للصّلاة واتّباعنا للشّهوات. بسبب انتشار الشّحناء والبغضاء والقطيعة بين الإخوة وبين الأرحام وبين الجيران. بسبب شيوع الظّلم وانتشار الفساد. بسبب خروج النّساء متبرّجات بزينة، كاسيات عاريات مائلات مميلات. بسبب جنوح كثير من شبابنا إلى الخمور والمخدّرات وإدمان بعضهم للمواقع الإباحية. بسبب إضاعة أعمالنا وتقصيرنا في وظائفنا. بسبب انتشار المحسوبية والمحاباة في توزيع الحقوق.

كلّنا نرى هذا الظّلم والفساد الذي عمّ وطمّ إلا ما رحم الله، ومن لم يشارك منّا فيه، سكت عنه، إلا من رحم الله، وأفضلُنا حالا من يبرأ إلى الله من الفساد بلسانه ويغلق على نفسه باب بيته.. فلم يبق مجال والحال هذه لأن نشكّ في أنّ اجتماع الغلاء والوباء وقحط السّماء، إنّما هو بسبب ذنوبنا: ((أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)).

لكن، مهما كان تقصيرنا ومهما كانت ذنوبنا، فإنّ ربّنا حنّان منّان كريم، يبسط يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيء الليل.. يده ممدودة لنا لنتوب ونستغفر ونصلح.. نحتاج فقط لأن تنبع توبتنا من قلوبنا بعد أن نشعر بالنّدم على تفريطنا في جنب الله، ونعقد العزم على ألا نعود إلى أخطائنا وتقصيرنا، ويعقد كلّ واحد منّا العزم على أن يصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين إخوانه، فيردّ المظالم إلى أهلها ويطلب العفو والصّفح ممّن آذاهم وأخذ حقوقهم بعد أن يردّها إليهم.

مقالات ذات صلة