الرأي

فقه “تصنيع” الفوضى بالدستور 

حبيب راشدين
  • 2029
  • 5
ح.م

ردود الأفعال الأولى المسجلة على النسخة الأولية لتعديل الدستور، توقفت عند المواد التي تعالج ملفات الهوية، وتحديدا المواد 2 و3 و4، صرفت اهتمام المتدخلين عن باقي التعديلات التي عالجت محاور بنية مؤسسات السلطة، والفصل بينها، وإعادة توزيع الصلاحيات بين رأسي الجهاز الإجرائي، ومحور ترقية استقلالية سلطة القضاء، مع غياب رؤية دستورية واضحة، توظف التعديل الدستوري في بناء جمهورية جديدة لأكثر من جيل.

يقينا لن تحتاج لخبرة قانونية، وفقه دستوري، لتكتشف في النسخة المعروضة على النقاش كثيرا من العيوب، والاختلال، والتضارب بين النصوص المقترحة، أراها مرشحة لتوطين علل أخطر من تلك التي يراد معالجتها، على رأسها: ما اقترحته اللجنة من تعديلات أعادت توزيع الصلاحيات بين رأسي الجهاز التنفيذي، وثبتت ازدواجية خطيرة على رأس هذا الجهاز، في وقت البلد مقبل فيه على مرحلة انتقالية طويلة، محفوفة بالأخطار والتهديدات، وتحتاج إلى قيادة مركزية ، تؤطر بمنح السلطتين التشريعية والقضائية مزيدا من الصلاحيات.

وقبل أن نخوض مع الخائضين في الجدل حول الألغام المزروعة في ملفات الهوية، التي لم يكن للجنة أن تفتحها أصلا في زمن مضطرب مع غياب مشهد سياسي جمعوي وأكاديمي، قادر على معالجتها بروح توافقية، دعونا ننظر إلى التعديلات من جهة المغارم والمغانم، قياسا مع نسخة 89، التي لم تخرج بها التعديلات الدستورية السابقة عن منطق نظام شبه رئاسي هجين، مستنسخ عن النظام الفرنسي الموروث عن الجمهورية الخامسة.

 ما هو مؤكد من أول قراءة موضوعية لنسخة التعديلات، تكشف أنها لا تفي بمطلب تغيير نظام الحكم، وبناء جمهورية جديدة مؤهلة لإدارة الشأن العام في عالم مضطرب، ولم تطرح المسودة أصلا، وبجرأة مطلوبة، مبدأ المفاضلة بين الصيغ الثلاث المتداولة في أغلب الدول الديمقراطية بين: النظم البرلمانية الصرفة، والرئاسية المطلقة، والنظام شبه الرئاسي الذي اعتمد على عجل في دستور 89، وكانت له وقتها مبرراته.

وحيث أن النظم “شبه رئاسية” المجربة في العالم العربي قد أثبتت ميل السلطة الرئاسية إلى التغول، والاستبداد بالسلطة التنفيذية، دون واجب الخضوع للمساءلة، كما تمنحنا بعض التجارب العربية للنظام البرلماني مشاهد مزرية ( في تونس، والعراق، ولبنان، والمغرب) للفوضى الخلاقة التي ينتجها النظام البرلماني في دول ناشئة، لم تتشكل فيها قوى اجتماعية وسياسية مستقرة، فقد كان بوسع اللجنة أن تقترح تعديلات تقربنا من نظام الحكم الرئاسي، يفصل بين الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي فصلا تاما، مع منح الجهاز التشريعي سلطات واسعة من جهة التشريع والرقابة، وجهاز تنفيذي يتولاه الرئيس مباشرة أو عبر رئيس حكومة مسئول أمام البرلمان، مع إخضاع سلطة التعيينات في الوظائف السامية الممنوحة للرئيس لرقابة برلمانية قبلية، والتفكير في تعزيز استقلالية الجهاز البيروقراطي التكنوقراطي، تحميه من تغول السلطة السياسية التنفيذية.

فقد ثبت بالتجربة، أن أخطر جهاز في الدولة تقوم عليه استمرارية الدولة، ويضمن استمرار تدفق الخدمات حتى حين تصاب بقية مؤسسات الدولة بالضعف والشلل هو الجهاز البيروقراطي ـ التكنوقراطي، وأنه كان وسيظل أهم بؤرة لتمرير الفساد السياسي والمالي، مع خضوعه لأهواء شخوص الجهاز التنفيذي السياسي دون أدنى حماية قانونية من تغول الرؤساء لمرؤوسيهم، وضع مرضي لم يعالجه هذا التعديل، ولم تلتفت إليه التعديلات السابقة، مع أن توفير استقلالية واسعة، وحمايته بترسانة من القوانين العضوية، هي عندي أهم حتى من ضمان استقلالية وحماية الجهاز القضائي، لأن جميع السلطات في النظام الديموقراطي هي مجرد “ضيف مؤقت” على الدولة العميقة، الممثلة في هذا الجهاز الضامن لاستمرارية الدولة.

يقينا لسنا مؤهلين، اليوم، وفي زمن قصير ومضطرب، لفتح مثل هذه الملفات الإصلاحية، وتحديدا لتثبيتها باستفتاء شعبي قد يقطع عنا طريق العودة الآمنة، وقد يحسن بالرئيس، في حال إصراره على هذه التعديلات، أن يكتفي بتمرير العاجل منها عبر البرلمان لنمح أنفسنا فرصة اختبار مغارمها ومغانمها، في مرحلة دستورية انتقالية تستغل وتوظف في إعادة بناء المشهد السياسي، وإعداده لمشاركة فعلية في بناء الدستور الدائم للبلد، وتوليد جمهورية جديدة تصلح لأكثر من جيل.

مقالات ذات صلة