الرأي

قابلية الشعوب للاستدمار

حبيب راشدين
  • 1763
  • 11
ح.م

ربما تكون الشعوب العربية والإسلامية، ومعها بقية شعوب العالم، بحاجة ماسة اليوم إلى إعادة قراءة إرث مالك بن نابي الفكري، والتوقف عند مفهوم “قابلية الشعوب للاستعمار”، مع تطويره الممكن لمفهوم أوسع، يوجِّه الانتباه والرصد لما تظهره الشعوب من “قابلية مرضية للاستدمار”، هي التي نراها تساعد حفنة من “الأوليغارك”، ومن نخبها العضوية الخدومة، على ممارسة هيمنة شبه مطلقة، وتحكّم متنام يفي مصير العامة، حتى من غير حاجة لاستعمال القوة البهيمية لأجهزة القمع.

قبل أن تصاب المعمورة بجائحة كوفيد 19، وتساق الشعوب، دون مقاومة تُذكر، مثل الدواجن إلى خم الإغلاق والحجر الطوعي، كانت أغلب شعوب العالم قد دُجِّنت ورُوِّضت، لتقبل ما تحتاجه حرب الدول الكاذبة على إرهاب مصنَّع، وتقبلت الخضوع الطوعي لإجراءات مهينة للجنس البشري: من تفتيش مهين بالمطارات وموانئ العبور، واستباحة بلا قيود للحريات الشخصية التي لم تقترب منها حتى الأنظمة الفاشية، وتداعت الهيئات التشريعية لصياغة ترسانةٍ من القوانين الاستعجالية، أتت على الغث والسمين من مضامين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن الإرث الأخلاقي الزائف للثورتين الفرنسية والأمريكية، ولما يُنسب زورا للحضارة الغربية من تفوُّقٍ أخلاقي على سائر الحضارات.

الشعوب الغربية التي لم تحرِّك ساكنا لما اقترفته حكوماتُها المنتخَبة من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية خلال الحقبة الاستعمارية، كما في زمن التمدد الإمبراطوري، نراها اليوم تُحرَّك مثل عرائس الغراغوز في مظاهرات صاخبة منفلتة العقال، تندد في الظاهر بالعنصرية، وبـ”جرائم الشرطة”، دون أن تقترب شبرا واحدا من إدانة النخب الحاكمة، التي ليست القوى الشرطية سوى إحدى أدواتها القمعية، وربما هي أقل أدواتها فتكا بالحريات، قياسا مع القمع والاضطهاد اللذين تمارسهما المؤسسات والشركات، وقد تحولت مع الزمن إلى أدوات للاستعباد الحديث، أو مع المؤسسات القضائية التي تملأ السجون بمن يسرق بيضة، وتزاور ذات اليمين وذات الشمال، على من يسرق العجل ورب العجل فما فوق.

يقينا.. هذه الشعوب الغربية، مثلها مثل بقية العوام من شعوب العالم الثالث، باتت تظهر اليوم مستوى عاليا من القابلية المرَضية للاستعمار وللاستدمار، وقد جمعت بين الخضوع المهين لحالة “احتلال مستدام” تنفذه النخب الأوليغارشية، ولاستعمار مطلق لفضاء الحياة اليومية، تديره النخب بأدوات الهندسة الاجتماعية الأكثر تطوُّرا من تقنيات الهندسة الجينية، وقد أضافت لهما قابلية متنامية للتدمير الذاتي بتطوير استجابة “بافلوفية”، لما تبثه النخبة من رسائل إثارة واستنفار، وتحشيد عبر وسائل الإعلام، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، التي سيقت لها الشعوبُ كما تساق “خراف بانورج”، وقد دخلتها تبحث فيها عن قرنين، ونراها تعود منها “مصلومة الأذنين”.

في اللحظة التي انتفخ فيها سحر تخويف الشعوب بجائحة وبائية، لم يتجاوب فيها فيروسُ كورونا مع رهانات العلية، صُنع للأمريكان ولشعوب الغرب مسلكٌ آخر للتنفس من تبعات الإغلاق الفاشل المدمر،  بتهييجها على خلفية مقتل رجل أفرو أمريكي على يد الشرطة، في حادثٍ غريب مصنَّع بأدوات “الرايات الكاذبة”، وسوق للقطيع كنموذج فظيع للسلوك العنصري، رغم أن أبشع مظاهر العنصرية اليوم هي تلك التي تمارسها النخب البيضاء، والسوداء، والصفراء ضد البشر، بجميع ألوانهم، وأعراقهم، ومعتقداتهم، من دون تمييز.

أحد أهم أدوات “الهندسة الاجتماعية” التي طورتها النخب الحاكمة، هي إشغال العامة بمعارك جانبية، حول ما يوصف باضطهاد الأقليات العرقية، والدينية، والجنسية، والثقافية، وصرف الشعوب عن معركة التحرير الواجبة ضد اضطهاد النخب الحاكمة، كيفما كان لونها، للأغلبية المستعبَدة، كيفما كانت بشرتها، لأن الزنجي مضطهد على الدوام، تمارَس ضده ألوانٌ من التمييز في بلده الأصلي بالقارة السمراء، كما تمارَس ضد إخوانه في الخلق عنصرياتٌ مبتكرة في حق بقية الأعراق، والمِلل، والنِّحل، من نخب خرجت من رحمها.

باسم مبدأ حماية الأقليات العرقية، والدينية، والثقافية، والجنسية، واللغوية من سلوكيات التمييز والاضطهاد، تمارس النخب الحاكمة اضطهادا منهجيا للأغلبية، ولأقلياتها على حد سواء، وقد استحوذت على أدوات استعباد الجميع بالأدوات التقليدية المطوَّرة عبر التاريخ البشري، وبأدواتٍ مبتكرة للهندسة الاجتماعية، التي حوَّلت اليوم شعوب العالم، من شعوبٍ وقبائل خُلقت لتتعارف، إلى كيانات وحيدة الخلية، محض أرقام بيوميترية، تُصنَّف وتُصفف داخل مصفوفة، سوف تحال إدارتها الرقمية للذكاء الاصطناعي، وللرقابة اللصيقة لـ”الأخ الكبير”.

مقالات ذات صلة