-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قوات “فاغنر” ومآسي الحروب المأجورة

قوات “فاغنر” ومآسي الحروب المأجورة

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي الحديث عن “انقلاب عسكري” في روسيا عقب أحداث تمرد قوات “فاغنر”، لجهل مدوّنين أن هذه الأخيرة تمثل مؤسسة أمنية خاصة متعاقدة مع وزارة الدفاع الروسيّة، للقيام بمهام حربية تحت سلطة الجيش النظامي، وليست ضمن أركانه الهيكليّة.

ولا شكّ أنّ وقوع البعض في هذا الخطأ له ما يبرّره منطقيا، لأنّ الأصل، على الأقل منذ توقيع اتفاقية وستفاليا في 1648، هو احتكار الدولة لاستعمال القوة والسلاح، ولم تبرز خوصصة الحروب مجددا، بعد القرون الوسطى، إلا في العقود الأخيرة، في ظل توسُّع القوى الرأسمالية عسكريا عبر جغرافيا العالم، ما اضطرها لإحياء جيوش المرتزقة.

أمّا خلال العصور الوسطى فقد كانت الحروب المأجورة والمرتزقة أمرا شائعا في أوروبا، حتى أنّ أمراءها في إيطاليا (الكوندوتييرو) والشركات السويسرية والجنود المرتزقة الألمانيون (الاندسكنيشت) وغيرهم، هيمنوا على الحروب في جزء كبير من القارة بين القرنين 13 و15 ميلادي، إذ أنّ الدول حينها لم تكن تتمتع بالسيادة في السياسة الدولية، بل تتقاسم ساحة مزدحمة مع لاعبين آخرين، على غرار البابوات والملوك والدول/ المدن والأسر الثرية.

لذلك، فإنّ عودة الجيوش الخاصة اليوم إلى المسرح العالمي، تمثل، برأي خبراء استراتيجيين، انتكاسة إلى عهد القرون الوسطى قبل ظهور الدولة “الوستفالية”، حتى أنهم يطلقون عليها وصف “القروسطية الجديدة”، مثلما قرّره شون ماكفيت في كتابه “المرتزقة الجدد”.

ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، تسارع النمو الاقتصادي لتلك الشركات الأمنية الخاصة بعشرات المليارات من الدولارات، على شكل عقودٍ حربية، تشمل الدعم اللوجستي والبناء والصيانة إلى مهام التدريب والقتال الميداني، ويشير ماكفيت بهذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تعاقد إدارة جورج دبليو بوش مع نصف المقاتلين في العراق من الشركات الخاصة، فيما وصلت نسبتهم في أفغانستان إلى 70٪.

وهنا يطرح المؤلف السؤال الحرج: لماذا تلجأ قوى عسكرية عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعيين قوات أمنية خاصة بعد قرون من حظرها؟ وهل تؤدي خصخصة الحرب إلى إحداث تغيير في طبيعة الأعمال الحربية؟

ينبغي التوضيح أن إعادة إحياء الشركات الأمنية كانت فكرة كبار العسكريين الأمريكيين من جنرالات المركَّب الحربي الذين يبحثون دائما عن موارد مالية خاصة، وبعد التقاعد الإجباري اهتدوا إلى إنشاء شركات مرتزقة، للتعاقد مع وزارة الدفاع في مهام حربية خارج التراب الأمريكي، مقابل أموال طائلة، مجنِّدين في ذلك أبناء الدول الفقيرة من شتى البقاع، للزج بهم في أتون النزاعات الحربية.

وقد وجدت القيادة السياسية الأمريكية فرصة في المرتزقة الجدد للتغطية على خسائرها البشرية في مناطق النزاعات المسلحة، باعتبارهم خارج تعداد الجيش النظامي، كما تم استعمالهم للتدخل وفرض الأجندات في المناطق الساخنة (ليبيريا والصومال مثلا) وحتى تنفيذ الاحتلال على الأرض (الحالة العراقية والأفغانية).

ويرى خبراء كثيرون رغم مخاطر “خصخصة الحرب” أنّ ملامح النظام الدولي الراهن والخلفية الفلسفية للنظام الرأسمالي، ستعززان في المستقبل أدوار القطاع الخاص في المجال العسكري، لأنه نظام متجرد من الأبعاد الأخلاقية ويرتكز بصفة جذرية على مبدأ “السوق الحر”، ما فتح الطريق أمام خصخصة الأمن نفسه، لتصبح الميلشيات المسلحة خارج سلطة الدولة تحظى بنظام قانوني يسمح بتوظيفها على نطاق واسع دوليّا، ومن الضحك على الأذقان أن تجري تلك المهام الربحيّة القذرة تحت غطاء حفظ السلم العالمي ونشر الديمقراطية.

مقابل ذلك، يدقُّ خبراء ناقوس الخطر على مستقبل النظام العالمي، محذرين من “التعامل مع النزاعات على أنها سِلع، لأن تقديم وسائل الحرب لمن يستطيع تحمُّل نفقتها من شأنه تغيير طبيعة الأعمال الحربية ودوافع القتال، لتتحول المؤسسات والأفراد الأثرياء إلى قوى عظمى بالسلاح”.

ويؤكد المختصون في هذا السياق أن “المحاربين مدفوعي الأجر سيغيّرون مسار الحروب، ومن ثم نتائجها، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تغيير مسار العلاقات الدولية”، والأخطر على المستوى الأخلاقي والفلسفي هو ربط حافز الربح بالقتل (التربُّح بالحرب)، الأمر الذي يضع الإنسانية أمام مرحلة جديدة عنوانها “الحروب المأجورة”.

ولا شك أنّ كل هذه المخاطر تدلل على الوجه الآخر لإفلاس الحداثة الغربية المادية المتجردة من الأخلاق، إذ طغت نزعات الربح الخاص، في صورة مصالح ضيقة، سواء كانت لأشخاص أو شركاء أو دول أو قوميات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!