-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كلكم صحفيون

محمود بلحيمر
  • 5268
  • 0
كلكم صحفيون

اليوم بإمكان أي إنسان أن يصبح “صحفي”، ينتج المادة الإعلامية من صورة وصوت ورأي ومعلومات وتفاصيل متصلة بالأحداث المختلفة، كل هذا بـ “بركة” الثورة التكنولوجيات. هذا في الصحافة الغربية، لكن صحافة ما بعد السوفياتية لا تزال وفية لرسالتها “التاريخية”: تغذية النوم العام وخطب الوعظ “للأبناء المغرر بهم”!

  •  بث الإنتاج الإعلامي “الشعبي”، إن صح التعبير، لم يعد مقتصرا على المدونات والمواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت بل أصبح مادة متداولة بكثرة على شاشات القنوات التلفزيونية الأمريكية الكبرى مثل “سي أن أن”، و”فوكس نيوز”، و”أم أس أن بي سي“… وتصل بسرعة إلى الجمهور العريض.
  • لو قمنا بعملية إحصائية لما يبث في هذه القنوات لوجدنا أن نسبة كبيرة من المادة الإعلامية (من 5 إلى 15 في المائة) هي من إنتاج المشاهدين أو المواطنين العاديين، سواء في شكل تدخل مباشر عبر الهاتف، أو تدخل مسجل عن طريق الفيديو، أو تصوير لحدث مرفق بتعليق يبث مباشرة، أو رسالة إلكترونية تتم قراءتها، أو سبر للرأي يتفاعل معه الجمهور.. وكل ذلك يدخل في حقل أطلق عليه اسم “الصحافة التشاركية”، أي إشراك المشاهد في معالجة الأحداث من خلال إسهاماته، أو ((Participatory Journalism، كما يسميه الصحفي ريك سانتشاس، مقدم أحد البرامج الإخبارية فيسي أن أن“.
  • البرامج التلفزيونية في أمريكا، بما فيها الخبرية، طلقت عهد السرد الممل للمادة التي تنتج في قسم الأخبار فقط، فالمشاهد أصبح يشارك، بطريقة أو بأخرى، في إنتاج الخبر والرأي والصورة، ويساهم بقوة في النقاش إلى جانب الصحفيين والمحللين والضيوف المختصينإلخ.
  • استخدام التلفزيون، والصحافة المكتوبة أيضا، للمواد ذات القيمة الخبرية التي يرسلها المشاهدون ليس وليد اليوم. فخلال الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت العاصمة الاسبانية مدريد في 11 مارس 2004، والتي خلفت قرابة 200 قتيل ومئات الجرحى، اضطرت عدة تلفزيونات وجرائد إلى استخدام الصور وأشرطة الفيديو التي التقطها هواة مباشرة بعد التفجيرات ووجهوها إلى المواقع الإلكترونية للمؤسسات الإعلامية وفي منتديات الإنترنت، كون مصوري التلفزيونات والصحف الكبرى فاتتهم الصور الأولى لمخلفات التفجير وتدخل فرق الإسعاف… وهكذا تفطنت وسائل الإعلام للفائدة الإخبارية لمادة أنتجها الجمهور، أوما يسمى بـ “آي، ريبورت” (iReport) ، فأصبحت التلفزيونات والمواقع الإلكترونية للصحف تحرص على طلب مشاهديها (أو صحفيين مفترضين) كي يساهموا في إثراء الحدث بالصور والفيديوهات و المعلومات..
  • الآي، ريبورتأثبت أهميته القصوى خلال حادثة تحطم طائرة أمريكية في نهر الهاتسون بنيويورك في 17 جانفي الماضي ونجا 153 شخص كانوا على متنها بأعجوبة.. فقنوات كـ “سي أن أن”، و”فوكس نيوز”، و”أم أس أن بي سي”، اضطرت لاستخدام فيديوهات صورها هواة كانوا يطلون من زجاجات ناطحات السحاب في مانهاتن واصطادوا صورا دقيقة عن اللحظات الأخيرة للطائرة وهي تهوي نحو النهر.. 
  • وهكذا أصبحت “التقارير الصحفية” للآي ريبورت مادة مألوفة ومتداولة على الشاشات، هناك أشرطة عن حوادث المرور والحرائق والبطالة والجريمة، ومجمل الأحداث اليومية والتجارب التي يعيشها الناس أصبحوا ينتجونها بأنفسهم ليجدونها فيما بعد على الشاشات.. ففي ظل الركود الاقتصادي الحاد بأمريكا أصبحت القنوات التلفزيونية تبث أشرطة فيديو لأشخاص يطرحون فيها مشاكلهم، كعدم قدرتهم على تسديد تكاليف العلاج، أو “روبورتاجات” عن معاناة شخص فقد منصب عمله، أو توجيه أسئلة مباشرة للمسؤولين، أو نقد لاذع لسياسة الحكومة وغيرها
  • ربما أن التلفزيون اضطر لخوض السباق قصد مسايرة الثورة الهادئة التي أحدثها “اليوتوب”، الذي يكتنز فضاءات للتعبير الحر غير محدودة على شبكة الإنترنت، ونقل ما يتداول في هذه الفضاءات إلى الشاشة، وأيضا، ربط أهل الإنترنت بأهل الشاشة أو أعادهم إليها، وهكذا قلما نجد برنامجا يخلو من المشاركة المباشرة للجمهور عن طريق الإنترنت. فمثلا هناك برنامج إخباري شهير للصحفي وولف بليتزر في “سي أن أن”، يسمى (The situation room)، يتضمن ركنا يرعاه الصحفي يختص في طرح قضايا معينة على الجمهور ويدعو للمشاركة على الموقع الإلكتروني للقناة، ليقرأ بعضا منها في البرنامج والباقي يبقى على الموقع.. ومعظم البرامج تأخذ نفس الشكل.
  • هذا الشكل الذي استقر عليه الإعلام الغربي ينسجم مع أعلى مستويات التطور الديمقراطي الذي وصلته المجتمعات هناك، سيما في مجال حرية التعبير. فالصحفي ليس أذكى من الجميع، وليس من حقه أن ينصب نفسه ضميرا للأمة ولا حارسا على “الصواب الوطني”، بل إن احترافيته تجعله يؤمن أن ما يأتي من الجمهور سيساهم في إعطاء صورة قريبة جدا من الحقيقة. لكن ينبغي أن نضع في الحسبان أن النموذج المثالي للإعلام الحر بعيد المنال، فهناك قنوات تحرص على انتقاء التقارير والآراء التي تخدم فقط وجهة نظر محددة سلفا في قاعة التحرير، كما هو نموذج “بيل أوراليفيفوكس نيوز، الذي يحرص على هيمنة مواقف محافظي الجمهوريين، ويحتكر النقاش ويسخر من مخالفيه في الرأي
  • هذا ما حصل في الإعلام الغربي بعد أكثر من عشريتين على نهاية الحرب الباردة، فماذا تطور في دول “الإعلام السوفياتي” سابقا؟ ففي إعلامنا العربي، ورغم استثناءات نادرة، تظل البرامج الخبرية في التلفزيونات وما تنتجه الصحف رهينة السرد الحرفي لما يطبخ في قاعات التحرير (وربما خارجها)، في ظل احتقار صارخ للجمهور وللإسهامات التي لا تكاد تذكر. أما بث إنتاج “آي ريبورت” فيظل حلما، وعندما يتم بث إنتاج الهواة فلغرض تمجيد الزعيم، أما التعاليق والآراء فلا وجود لها، لأن الإعلاميين يحسبون أنفسهم عباقرة متفوقين في كل شيء، وبالتالي لا يترددون في إلقاء المواعظ في الوطنية علىأبنائنا المغرر بهم، وأيضا، لأن وسائل الإعلام أخذت على عاتقها مهمة المساهمة في ديمومة النوم العام وهي تؤديها بامتياز!
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!