الرأي

ليست النّائحة الثّكلى مثلَ النّائحة المستأجرة

سلطان بركاني
  • 9412
  • 4
ح.م

يُروى في الآثار أنّ عمر بن ذرّ (ت 156ه) سأل أباه يوما: يا أبت، ما لك إذا تكلّمت أبكيت النّاس، وإذا تكلّم غيرك لم يُبكهم؟ فقال: “يا بُنيّ، ليست النّائحة الثّكلى مثلَ النّائحة المستأجرة” (المُجالسة للدينوري، ص736).. ليست النّائحة الثّكلى كالنّائحة المستأجرة، عبارة يَحسن بكلّ مسلم يتصدّى للنّصح ونشر الخير بين النّاس أن يتمثّلها، ويَحسن أكثر بالأئمّة والخطباء الذين يجلسون أمام جموع المصلّين في بيوت الله ليُعلّموهم ويعظوهم ويذكّروهم؛ يحسن بهم أن يتدبّروا هذه الكلمات التي تعينهم على وضع أيديهم على سبب من أهمّ أسباب قلّة تأثّر المصلّين بالخطب والدّروس والمواعظ.

كثيرا ما يُبدي بعض الأئمة والخطباء تبرّمهم من واقع جموع المصلّين الذي يجلسون بين أيديهم في بيوت الله كلّ أسبوع بالآلاف، ويسمعون خطبهم ودروسهم وحديثهم عن المنكرات التي ما تزداد إلا فُشوا وانتشارا، لكنّهم (أي المصلّين) إذا خرجوا من المساجد إلى الواقع لم يتغيّر شيء.. هذه الحال التي آل إليها واقع المجتمع لا شكّ في أنّ لها أسبابا كثيرة، منها انتشار دواعي الغفلة وقسوة القلوب من أغان ومسلسلات وتبرّج، إضافة إلى أسباب ومثبّطات أخرى كفيلة بأن تثني مِن عزم مَن أراد إصلاح حاله وتغيير واقعه.. لكنّنا لو أمعنّا في البحث عن أهمّ الأسباب، لوجدنا أنّ بعض الأئمّة والخطباء يتحمّلون جزءًا كبيرا ومُهمّا من المسؤولية، كيف لا وقد تحوّل عدد غير قليل منهم إلى موظّفين لا تختلف حالهم عن حال نظرائهم في باقي القطاعات؛ ما عادت الأمانة والرسالة تهمّهم. المهمّ بالنّسبة إليهم أن يؤدّوا الواجب الذي طلب منهم بموجب المهام التي أوكلت إليهم، هذا إن لم يتخلّوا عن كثير من واجباتهم ومقتضيات مهامهم، وما عاد يهمّ بعضهم أن يكونوا قدوة للنّاس في السّير إلى الله ولزوم شرعه، وفي مثل هؤلاء يقول مالك بن دينار (ت 130ه) رحمه الله: “إنّ العالِم إذا لم يعمل، زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ القطر عن الصّفا”.. وبإزاء هؤلاء، أئمّةٌ آخرون يقدُرون الإمامة قدرها، لكنّهم اتّخذوا من الخطابة وسيلة للشّهرة وطلب الحظوة بين النّاس، فتجد الواحد منهم لا يهتمّ كثيرا بتحرّي الإخلاص، ويأنس بالمدح، بل ربّما يطلب رأي النّاس فيما قال وقدّم! وينتشي كلّما سمع كلمات إطراء من المصلّين، ويزداد حماسه في الخطابة، وربّما يتحوّل إلى ممثّل على المنبر، يرجو ما يرجوه الممثّل على المسرح، من نيل الإعجاب والظّفر بالمدح والإطراء، وهؤلاء الأئمّة غالبا ما تجدهم مهتمّين بالإغراق في توصيف الواقع وتوصيف أحوال بعض النّاس في المجتمع بصورة تبهر السّامعين ويتمنّون المزيد منها، لكنّهم (أي هذا الصّنف من الأئمّة) لا يهتمّون بإيجاد حلول للظّواهر التي غزت المجتمع، ولا يهتمّون بدلالة النّاس إلى الطّرق المثلى لتغيير أحوالهم وطباعهم ومقاومة الفساد في واقعهم..

ربّما تجد من هؤلاء الأئمّة من يستنسخ الخطب المؤثّرة التي ألقاها مشاهير الدّعاة والخطباء في العالم الإسلاميّ، ويلقيها على أسماع المصلّين، وربّما يستعين بالقصص المؤثّرة، لكنّك وأنت تسمع كلماته التي تصدح بها حنجرته ويعلو بها صوته، تحسّ بأنّها نابعة من لسانه ولم تخالط شغاف قلبه، ولذلك لا تكاد تجد من يتأثّر بها.. قال زياد بن أبي سفيان (ت 63ه): “إذا خرج الكلام من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللّسان لم يُجاوز الآذان”.. لأجل هذا، فالأئمّة والخطباء، أحوج ما يكونون إلى الرّوحانية وإلى الأعمال الخفية التي ترقّق قلوبهم وتجعل كلامهم يخالط أفئدتهم وأرواحهم قبل أن يخالط ألسنتهم، وأحوج ما يكونون إلى الإلحاح على الله بالدّعاء بأن يصلح سرائرهم ويرزقهم الإخلاص في أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم، وأحوج ما يكونون إلى تلمّس ومراجعة نياتهم بين الحين والآخر، ولو كان ذلك قبل وبعد كلّ خطبة أو درس، فهو أكمل وأنفع لهم ولمن يسمعون كلماتهم. يقول أيوب السّختياني (ت 131ه): قال لي أبو قلابة: “يا أيّوب، إذا أحدث الله لك علما، فأحدث له عبادة، ولا يكن همّك أن تُحدّث به”.

مقالات ذات صلة