محمد الخاني : رائد تعريب الطب
قبل 100عام، أي في عام 1919، قررت الحكومة السورية تدريس العلوم الطبية باللغة العربية (بدل التركية)، فكان محمد جميل الخاني من مؤسسي المعهد الطبي العربي الذي يسمى الآن كلية الطب البشري. وقد ولد هذا الطبيب واللغوي في دمشق عام 1891، وتوفي فيها عام 1951. وزاول دراسته الثانوية في مدرسة عثمانية، ثم انتقل إلى المدرسة الطبية التي ﺗﺄﺳﺴﺖ بدمشق ﻋﺎﻡ 1901 فتخرج منها عام 1910، وعمل فيها أستاذا، ﻭﻛﺎﻧﺖ تدرّس باللغة ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ.
طالب في باريس
واصل الخاني دراسته في باريس للتخصص في الطب، وفي هذا الإطار كان يتردّد على مستشفى سان لويس Saint-Louis لدراسة الأمراض الجلدية. كما درس أيضا في باريس الرياضيات والفيزياء. عاد بعد ذلك إلى دمشق ليدرِّس هذه المواد في المعهد الطبي العربي، وظل كذلك حتى سنة 1933 إذ طلب آنذاك إحالته على التقاعد. ثم في عام 1942 صار عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، ولم تمض سنوات حتى طلب استقالته منه عام 1949!
كان الخاني نشيطا في الحياة الاجتماعية والسياسية، مما جعله ينتخب أمين سر الجمعية الطبية السورية، وكان أول نقيب لنقابة أطباء سورية عام 1943.
في عام 1934 كتب الخاني في موضوع تدريس العلوم باللغة العربية: “منذ شرعت تدريس العلوم الطبيعية والرياضية في المدارس العربية بدمشق، أي منذ عشرين عاما، كنت أرجّح أن آخذ هذه العلوم عن الكتب الغربية إذ لا مشاحة في أن بلاد الغرب هي منبع هذه العلوم في هذا العصر، لكني كنت ألاقي في سبيل الوصول إلى غايتي عقبات في ترجمة المصطلحات الأعجمية إلى اللغة العربية.”
يعتبر الخاني أيضا أول من درّس الفيزياء لطلاب الجامعة باللغة العربية. وكان ينشر المصطلحات الجديدة التي يضعها في مجلة المعهد الطبي ومجلة مجمع اللغة العربية (الذي كان يسمى المجمع العلمي العربي).
وقد تميز الخاني بتقديم دروس بلغة عربية سلسلة مهتما بالأنسب من المصطلحات. ولذا كان يبحث في جديدها، ويضع لها مقابلا عربيا، ثم يعمل على تحسينه ويعرض ما يقترحه على صفحات مجلتين أكاديميتين. يقول الخاني في المقالة الأولى من سلسلة مقالات بعنوان ‘اللغة العلمية’ شرع في نشرها عام 1924 : “… ولذلك أحببنا أن نبيِّن للقراء هذه الأغلاط، ليشاركونا في الانتباه إلى ما انطبع في أدمغتنا من الكلمات غير الصحيحة ونستبدل بها صحيحها خدمة للعلم واللغة. وسنوالي نشر مقالاتنا في هذا الموضوع تحت عنوان ‘اللغة العلمية’… ولا نقصد بذلك أن نختص بهذا الباب دون غيرنا، بل إنه باب مفتوح لكل من يطرقه، ونسدي أطيب الشكر لكل من يؤازرنا في هذا المشروع من إخواننا الأطباء وغيرهم…”.
“الـدُرُّ المتراِصف”
ومما يدل على مدى انشغال الخاني بموضوع المصطلح منذ العشرينيات قوله آنذاك : “أتى على اصطلاحات العلوم والفنون، لاسيما الطبية منها، حين من الدهر وهي تتخبط في دياجي الإبهام…. فاعتراها التشويش والتحريف واستولت عليها الأغلاط … وسرت الفوضى في الأسماء … مما أدى إلى توالي العقبات في سبيل التفاهم… ” وهو ما دفع الخاني إلى العمل على تغيير هذا الوضع في باب المصطلح العلمي العربي.
وهكذا اشتهر الخاني بكتابه الصادر عام 1930 الذي اختار له العنوان “القطوف الينيعة في علم الطبيعة”؛ وهو موجّه لطلاب الطب والصيدلة ويتناول محاور عديدة منها الميكانيك والموائع والغازات والحرارة والحركة الاهتزازية والصوت والضوء والمغناطيسية والكهربائية. وهذا فضلا عن محاور في الرياضيات ارتأى أن الطالب سيكون بحاجة إليها لاستيعاب المواضيع الرئيسية.
وقد أضاف لكتابه ملحقا ضخما يُعتبر بمثابة معجم فرنسي-عربي-فرنسي يحيط بكل المصطلحات العلمية الواردة في المؤلَف إذ بلغ عددها نحو 1500 مصطلح! والكثير من هذه المصطلحات من وضعه الخاص، أما الباقي فهو مستمد من التراث العلمي العربي. واليوم نحن نستخدم العديد من تلك المصطلحات التي رآها الخاني قبل 80 سنة! ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء تشتمل على نحو 1150 صفحة.
وعكف الخاني خلال فترة تقاعده المبكّر على إصدار معجم عربي ضخم أوشك على إنهائه حيث بلغ حرف الميم. وبهذا الصدد قال واثق شهيد، عضو مجمع اللغة العربية السوري، واصفا عام 2005 وضع المصطلح العلمي في دمشق خلال الأربعينيات من القرن العشرين، وهو يتحدث عن بروز “مدرسة” تعنى بالمصطلح العلمي: “وضمت المدرسة الدكتور جميل الخاني الذي وضع مصطلحات الفيزياء وأمراض الجلد، وشرع يضع معجمه الذي سماه ‘الدرّ المتراصف في متن اللغة والمترادف’ وصل فيه إلى حرف العين، وعاجلته المنون فتُرك مخطوطا”.
جاء هذا المعجم الضخم في 10 مجلدات وظل مخطوطا بعد رحيله. والواقع أن هذا العمل ليس الإنتاج العلمي الوحيد للخاني، بل هناك أيضا محاضراته الموجهة لطلاب الجامعة. كما وضع مؤلفا بالتركية في الوقت الذي كان مدرّسا في المدرسة الطبية العثمانية يبحث في الأدوية والمداواة. وللخاني عشرات المقالات نشرت في عديد المجلات، منها، في اللغة والمصطلح العلمي؛ ومنها في الشؤون الاجتماعية؛ ومنها في السياسة نشرت وقتئذ في صحف دمشق وبيروت والقاهرة. كما نشر أيضا بحوثا علمية في مجلة طبية الفرنسية.
لقد عاش الدكتور محمد جميل الخاني في بداية نهضة فكرية وسياسية عمّت المنطقة فأدت في آخر المطاف إلى التخلص من الاستعمار القديم والاتكال على مقومات ضاربة في تاريخها المجيد… فأبلى الخاني البلاء الحسن خدمة لبلده وأمته فيما اختص فيه من العلوم. أما نحن اليوم فنعيش فترة الردة الفكرية والسياسية في كل هذه الأوطان التي تعاني من ويلات الاستعمار الجديد.
وخلاصة القول إن محمد جميل الخاني عاش بآماله فاجتهد وأصاب؛ واليوم، يعيش القوم بخيبة أمل أدت بهم إلى هجرة الأوطان… إلاّ من أبى!!