-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محنة الكتاب في الجزائر

حسن خليفة
  • 353
  • 0
محنة الكتاب في الجزائر
أرشيف

مفتتح “وراء كل كتاب فكرة، ووراء كل فكرة خطوة للأمام.”.

تكشّفت آثار الجائحة التي مسّت العالم بأسره، ومن ذلك بلدنا.. تكشّفت عن حقائق كبيرة، يحسُن أن نتوقّف عندها، ونحلّلها ونعيد تركيبها للاستفادة منها على النحو المطلوب، إن كان لدينا ـ بالفعل ـ ما يمكن أن يُعدُّ “حاسّة اعتبار” مما جرى، وهذا الاعتبار منهجٌ متكامل في الاستفادة من كل ما يحدثُ للإنسان، فردا أو جماعة  أو دولة؛ لأن المنطوق في قوله تعالى “فاعتبروا يا أولي الأبصار” يقتضي ذلك، وله دلالاتٌ عظيمة كثيرة نافعة.

وإن تكن التداعيات متعددة، متنوعة، مسّت كثيرا، إن لم نقل كل الميادين، فإن ما نريد تسليط الضوء عليه هنا هو مجال الكتاب، بكل ما يحمله معنى الكتاب من دلالات ومعان وظلال كالقراءة، والثقافة، والتوجيه، والتطوّر الفكري الإنساني؛ وبما يجعله صناعة إستراتيجية ثقيلة، بعيدة المدى، قوية الأثر، في حياة الإنسان والمجتمع، وهو ما يعني وجوب عناية الدولة به عناية حقيقية ثابتة لا تتحوّل، ولا تتأخر.

إن واقعنا البيّن الظاهر في مسألة الكتاب، بعد سبعة أشهر من هذه الجائحة التي جعلت الكثير من الأمور عارية مكشوفة، وأيضا بما قبلها من حيث سيَّادة الفوضى والارتجال، واختلال الموازين بين الكتاب المحلّي والكتاب المستورد، وهيمنة لوبيات على الكتاب وتجارة الكتاب، وشيوع كثير من الأساليب غير الأخلاقية في مجال توزيع الكتاب وإبرام الصفقات الخاصة بالكتاب، مع المكتبات الكبيرة الجامعية وغير الجامعية، وصولا إلى ما يجري من جرائر في الصالون الدولي للكتاب كلّ عام من محاباة وتمييز بين الناشرين، وتقديم ذوي القُربى أو ذوي الحظوة والتيسير للبعض والتعسير على البعض الآخر.

كل ذلك وغيره مما ينبغي أن يكون محلّ النظر والتحليل والاستيعاب، لردم هذه الفجوة الخطيرة في مسألة الكتاب، وبلورة  تصوّر علمي منهجي عمَلي ثقافي حقيقي لدى السلطات أولا، ولدى المجتمع ثانيا، وإعادة تصويب النظر إلى الكتاب كوسيطٍ ثقافي لا غنى عنه، واستدراك ما يمكن استدراكُه قبل أن نصل إلى الحضيض.

وحتى تكون الصورة قريبة للقارئ الكريم نستعرضُ ما يلي:

عندما نجد بعضا ـوربما كثيراـ من أصحاب المكتبات حوّلوا نشاطهم إلى ميادين أخرى.

وعندما نجد دور نشر جادة متينة البنيان تغلقُ وتعلن إفلاسها، ويبيع أصحابها سياراتهم وما عندهم.

وعندما نجد أصحاب مكتبات وأصحاب دور نشر لا يستطيعون دفع آجار الكراء، ولا دفع مرتبات العاملين معهم.

وعندما تصير مهنة الكتاب: كتابة وصناعة ونشرا وتوزيعا أشبه ما تكون بلعنةٍ تلاحق صاحبها وترسّخ فيه خطأ اتجاهه إلى هذا العالم العظيم الجميل، عالم الكتاب والنشر، كما هو حال بعض الناشرين الذين صاروا يستلفون ليأكلوا ويأكل أبناؤهم.

وعندما يصير طبع كتاب ونشره معضلة حقيقية.

وعندما تنطفئ الأفكار في رؤوس المثقفين والمفكرين ليتمّ التراجع عن الإنتاج الفكري والثقافي والعلمي؛ لأن عقولهم استيقنت -بالنظر للوضع الكئيب للكتاب والناشر والمكتبات- استيقنت بحسرة أن الكتابة والكتاب والثقافة “ماتوكّلش خبز”.

فلننظر إلى هذه الخسارات الضخمة للعالم الثقافي في  ضوء هذا البؤس المحيط بالكتاب، وجعله في ذيل الأولويات، والأصل أن يكون  أولوية الأولويات..

إن كل ذلك يعني أن ثمة خللا مفهوميا في الرؤية لدى السلطة في مفهوم صناعة الكتاب؛ إذ لا يرقى إلى  موقع الأولوية؛ فالدولة لا تهتم بالكتاب من حيث هو مجال كبير للاستثمار الحقيقي المستقبلي، ولا تهتمّ بما يحدث في هذا المجال، ولا تسعى إلى المحافظة على المكاسب الثقافية، وليس لديها خطط لصيانة هذا الميراث الثقافي الإنساني الرائع، بدعم الناشرين، وتشجيع الكتّاب والمبدعين، ودعم المكتبات وتشجيع القراءة والمطالعة، وغرس ثقافة الكتاب في نفوس الأجيال الصاعدة.. إذا انعدم ذلك فهو دليلٌ على أن محنة الكتاب ستطول وستدوم وتلك هي الخسارة الحقيقية.

وإذا وجّهنا نظرنا تلقاء ما يقوله الناشرون أنفسهم نجد هذه المحنة متمثلة في الآتي:

إن أهم مظاهر أزمة النشر والناشرين، حتى قبلَ جائحة فيروس كورونا المستجد:

انحسار عدد المكتبات المريع؛ إذ أغلقت الكثير منها في مختلف جهات الوطن.

استحواذ المستوردين الاهتمام والرعاية ـ إن صحّ التعبيرـ وكان هذا على حساب الكتاب المحلي، صناعة ونشرا وتوزيعا، عن طريق منح تخفيضات أقل بكثير من المتعارف عليه بالنسبة للكتاب المحلي، ومما تسمح به أسعار الكتاب المحلي. وذلك لأن مستوردي الكتاب يحققون أرباحهم قبل بيع الكتب عن طريق فارق سعر صرف الدينار الجزائري أمام العملة الصعبة.

الأفضلية الممنوحة، ولو عن غير قصد، للكتاب المستورَد على حساب الكتاب المحلي. وأهم مظاهرها: الإعفاء الجمركي التام بينما تخضع كل مدخلات صناعة الكتاب للجمركة، وهي كلها مستوردة (الورق ـ الأحبار…).

استيلاء نفس المورِّدين على صفقات تموين المكتبات الجامعية، والتي لا يمثل فيها الكتاب الجزائري إلا نسباً مجهرية (أحياناً أقل من 1%).

كما أن هناك ما يؤكد وجود تهريب للكتاب المقرصَن إلى السوق الجزائرية، وربما طباعته محليًّا، مما يفشل محاولات شراء الحقوق التي يقوم بها الناشرون الجادون.

كما يضاف إلى هذه الأصناف من المنافسة غير الشرعية، منافسة الكتاب المقرصن الجزائري والعربي والأجنبي مجاناً على بعض المواقع الإلكترونية.

حرمان مكتبات البيع من بيع الكتاب المدرسي كما هو معمول به في سائر أرجاء المعمورة، وهو السبيل الأقصر للإبقاء على ما تبقى من مكتبات، وربما لبعث نشاط مكتبات البيع بعد عزوف الناس عنه لانعدام الجدوى الاقتصادية من ورائه.

لكن يبقى أهمّ وأخطر مشكل تعاني منه مهن صناعة الكتاب هو عزوف المجتمع عن القراءة، ومرد ذلك -في معظمه- إلى انعدام الطائل (العائد) المباشر للقراءة في أي ترقية اجتماعية أو مهنية. فنحن، مع كل أسف، نرى أن منتهى ما قد يصل إليه المثقف أن يجد ما يسد رمقه ورمق أطفاله، بينما أضواء الشهرة وتصدُّر المشهد السياسي وكل ما يرمز إلى النجاح الاجتماعي من مال وبهرج وذيوع صيت حكر على قليلي الحظ من الثقافة.. وهذا مشاهد ملحوظ معروف في حياتنا الاجتماعية والسياسية..

إن ذلك يعني أن ّ ثمة معضلة ما، وخلال ما، وهذه المعضلة لا يمكن أن يتحمّلها الناشرون ولا المثقفون وحدهم، بل على الدولة بأجهزتها ودواوينها ووزاراتها أن تشترك مع مهنيي الكتاب -والمثقفين بشكل عام- لبعث القراءة وحب المطالعة من جديد في الناس، ولإعادة الكتاب إلى مكانته المركزية -في وجدانهم وفي اعتبار الدولة- التي ما كان له أن يتركها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!