الرأي

من “جلسة الاستراحة” إلى منهج “الإزاحة”!

سلطان بركاني
  • 1322
  • 12

صلاة الجماعة، عند المسلمين، مظهر من المظاهر البهيّة التي تخفق لها قلوب المؤمنين وتسعد بها أرواحهم، وتغتاظ لها قلوب المتربّصين وتضيق بها صدورهم؛ يجتمع المسلمون في مكان واحد، لا فرق بين غنيّ وفقير، ولا بين صغير وكبير، ولا بين مسؤول وموظّف بسيط.. يكبّرون في وقت واحد، ويركعون في وقت واحد، ويسجدون خلف إمامهم في وقت واحد، ويسلّمون في وقت واحد.. هذا المظهر يتمنّى كلّ مسلم سلمت نفسه من داء الولع بالخلاف والشّقاق أن يبقى ويدوم، طاعة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحرصا على وحدة الأمّة.

المسجد هو أنسب مكان تتعلّم فيه الأمّة ضرورة الحرص على وحدة الصفّ والهدف، ولو لم تكن وحدة المصلين في صلاة الجماعة سببا من أهمّ أسباب تقارب القلوب وتآلف الأرواح، ما حرص النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كلّ الحرص على تسوية الصّفوف وتكرار النّهي عن الاختلاف في الصّلاة ومخالفة الإمام: يقول أبو مسعود البدريّ رضي الله عنه: كان رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: “استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم”.. كان من الممكن أن يرغّب الشّرع الحكيم عباد الله المؤمنين في أن يصلّوا فرادى في بيوت الله، يطلبون بركة المكان وحضور الملائكة، ولكنّه أمرهم بأن يأتمّوا بإمام يتقدّمهم، ونهاهم عن أن يختلفوا عليه، وزجرهم عن أن يسابقوه أو يوافقوه، كما نهاهم عن أن يتأخّروا عنه، يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “إنّما جُعل الإمامُ ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا, وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللّه لمن حمده, فقولوا: ربّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسا فصلّوا جلوسا أجمعون” (رواه البخاري ومسلم).

الحرص على المخالفة بذريعة التمسّك بالسنّة!

مؤسفة حقا تلك المظاهر التي نراها في بيوت الله، من تساهل بعض المصلّين في مخالفة أئمّة المساجد وجماعة المسلمين؛ منهم من يخالف استهتارا وتهاونا، ومنهم من يخالف الأئمّة تعالما وتقصّدا.. فهذا يتأخّر في رفع رأسه من السّجود، مدفوعا بحرصه على الدّعاء في ذلك الموضع، وفاتَه أنّ متابعة الإمام أنفع له من إطالة السّجود.. وذاك يسابق الإمام فيركع معه ويرفع رأسه من السّجود معه، وربّما يسبق الإمام فيبدأ التشهّد قبله، وربّما يسلّم قبل سلام إمامه، وهذا كلّه محرّم ومنهيّ عنه، لأنّ الواجب على المأموم أن يتابع إمامه، فلا يتقدّم عليه ولا يوافقه ولا يتأخّر عنه.
وفي المقابل، نرى في المساجد شبابا يخالفون الأئمّة، بحجّة التمسّك بالدّليل والسنّة، وبذريعة أنّ الأئمّة يتّبعون المذهب المالكي ولا يتّبعون الدّليل! ترى الواحد من هؤلاء الشّباب، يجلس جلسة الاستراحة المختلف في سنيتها خلف إمام لا يجلسها (!) فيتأخّر في القيام إلى الركعة الثانية والرّكعة الرّابعة، وربّما يصل به الأمر إلى أن يمكث جالسا حتى يبدأ الإمام قراءة الفاتحة ويقترب من انتصافها، ثمّ يزيد على ذلك فيتأخّر في الانحناء للرّكوع وفي الهويّ إلى السّجود، ثمّ في الأخير يتأخّر في التسليم حتى يسلّم الإمام من الجهتين، وربّما يتأخّر في تسليمه حتى يتحوّل الإمام ويقابل الجماعة.. يفعل هذا في كلّ صلاة، وربّما يتسبّب في اضطراب من يصلّون خلفه وإلى جانبه في الصفّ، فكثيرا ما يشكو رواد المساجد من هذه الظّاهرة التي تشوّش عليهم صلاتهم، حتّى يظنّ بعضهم لكثرة ما يرى من حرص هؤلاء الشّباب على مخالفة الجماعة، أنّ الإمام والجماعة هم المخطئون! بينما حقيقة الأمر أنّ هؤلاء الشّباب “المتسنّنين” هم المخطئون؛ يظنّ الواحد منهم أنّه بإصراره على مخالفة الجماعة في مسائل الخلاف، قد طبّق السنّة وأحياها وصبر عليها، ولا يدري أنّه خالف أمر صاحب السنّة -عليه الصّلاة والسّلام- الذي قال: “إنّما جُعل الإمامُ ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللّه لمن حمده، فقولوا: ربّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسا فصلّوا جلوسا أجمعون”، وإذا كان يتعيّن -أو يباح- على المأموم أن يصلّي صلاة الفرض جالسا مع قدرته على القيام، في قول بعض أهل العلم، إذا اضطرّ إمامه إلى الصّلاة جالسا لعلّة، ويكون بذلك قد ترك ركنا من أركان الصّلاة حرصا على الاقتداء بالإمام، كيف بسنّة مؤكّدة مثل التشهّد الأوسط الذي يتعيّن على المأموم تركه إذا نسيه الإمام؟ ثمّ كيف بعد ذلك بهيئة مختلف فيها مثل جلسة الاستراحة التي يرى جمهور العلماء من السلف والخلف أنّها ليست من سنن الصلاة، وإنما فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكبر أو عجز، ولهم في ذلك أدلة كثيرة.. نعم، قد قال الشّافعية بسنيتها، ولهم أدلّتهم في ذلك، لكنّ “الفقه” يقتضي ألا يجلس المأموم جلسة الاستراحة إذا كان إمامه لا يجلسها، لأنّها من مسائل الخلاف التي يتعيّن فيها على المأموم أن يتابع فيها إمامه، وبهذا يفتي جماهير العلماء من السّلف والخلف، بمن فيهم العثيمين وابن باز والألباني، رحمهم الله.
وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا يصرّ هؤلاء الشّباب على مخالفة أئمّة المساجد، ما دام العلماء السلفيون كابن باز وابن عثيمين والألباني يفتون بمتابعة الإمام في مسائل الخلاف؟ والجواب أنّ القضية تتعلّق بشهوة المخالفة التي تطغى عند هؤلاء الشّباب الذين يتّبعون ما يفتيهم به الرؤوس المتعالمون الذين لا تخلو منهم مدينة ولا قرية، هؤلاء الرؤوس يختارون للأتباع من أقوال الألباني وابن باز وابن عثيمين، خلاف ما عليه أئمّة المساجد وجماعة المسلمين، ويزيدون على ذلك التحريض على الأئمّة ووصمهم بالجهل ومخالفة الدّليل والتعصّب للمذهب! لذلك ترى عامّة هؤلاء الشّباب أحرص ما يكونون على إظهار الخلاف، وعلى مناكفة أئمّة المساجد وغيبتهم والتّحذير منهم، ووصف عامّة المسلمين بأنّهم عوامّ جهلة!!! مع أنّ عامّة هؤلاء الشّباب المتسنّنين هم من ضحايا التسرّب المدرسي، وحتى المتعلمون منهم ورؤوسهم لا يجرؤون على الخروج عن الإطار والتفكير خارج العلبة، حذرا من انفضاض الأتباع.

مِن الحرص على الخلاف.. إلى إزهاق الأرواح!

قد تسأل أخي القارئ: لماذا الإنكار في مسائل الفقه البسيطة هذه؟ ولماذا نجعل من الحبّة قبّة؟ ما الذي يضرّ الأمّةَ أن يجلس بعض المصلّين جلسة الاستراحة ويتركها بعضهم؟ أو يسلّم بعضهم قبل بعض؟ والجواب أنّ الخلاف في الصّلاة عندما يتّخذ دينا وديدنا، شأنه شأن اختلاف الصّفوف، يؤدّي إلى اختلاف القلوب بين عباد الله المصلّين، ودليل هذا حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم”، وهذا ما نراه واقعا عند هؤلاء الشّباب المولعين بخلاف الأئمّة والمصلّين، الذين ينظرون بعين الغيض والحنق إلى أئمّة المساجد، وينظرون باستعلاء إلى عامّة المسلمين مع أنّ غالب هؤلاء الشّباب هم من ذوي المستويات المحدودة دراسيا وعلميا وفكريا.
القضية عند هؤلاء الشّباب المولعين بالخلاف ليست قضية مسائل بسيطة في الصّلاة، يختلف فيها المصلّون ويعذر بعضهم بعضا، وإنّما هي قضية منهج كامل يحرّض هؤلاء الشّباب على مخالفة أئمّة المساجد ومناوأتهم، وعلى الطّعن فيهم وتصنيفهم واتّهامهم بالجهل ومخالفة الدّليل، ومحاولة تحريض النّاس عليهم..، وقد بلغ الأمر في مساجد كثيرة إلى حدّ إنزال الأئمّة من على المنابر وإلى حدّ منعهم من الصّلاة، بسبب هذا التّحريض، والأمر لا يتوقّف عند الصّلاة، بل يتعدّاه إلى التّحريض على الأئمّة والدّعاة والعلماء الذين لا يرتضون المنهج المدخليّ منهجَ الخلاف والشّقاق، وقد يصل الأمر إلى إسالة الدّماء وإزهاق الأرواح، وما حدث عند جيراننا في ليبيا خير مثال لهذا، حيث استغلّ المداخلة الفتنة التي حدثت وأسّسوا جماعات مسلّحة، لم تنتدب لقتال قوات الناتو إنّما انتدبت لقتل المسلمين، وقتل أئمّة المساجد، والجريمة الشّنعاء التي ارتكبت في حقّ الدّاعية الليبيّ نادر العمرانيّ رحمه الله، خير مثال في هذا الصّدد.
الحرص على الخلاف، ولو كان في مسائل الفقه الجزئية، عندما يرتبط بإصدار الأحكام الجاهزة على المختلف معه، يتحوّل إلى سبب من أهمّ أسباب الشّقاق والتّنازع، وقد يتحوّل مع تراكم الأحقاد إلى سبب في الحرص على إلغاء الآخر، وربّما إزاحته أو حتّى إزالته!
ألا فلتحذروا إخواني الشّباب، أن تقعوا ضحية لمن يريد أن يقودكم إلى التعصّب ويضمّكم إلى هذه الطّوائف التي تعتاش على الخلاف، خاصّة منها هذه التي تحرّض على أئمّة المساجد وتدعو إلى عصيانهم ومخالفتهم بينما ترغّب في طاعة أئمّة الجور، وتزعم أنّ ذلك هو منهج السّلف(!).. احذروا يا شبابنا، يا من هديتم إلى الفطرة، أن تقلّدوا هؤلاء الشّباب المولعين بالخلاف والشّقاق.. الزموا جماعة المسلمين، وإياكم والشّذوذ والفرقة.. هؤلاء الشّباب المولعون بالخلاف، أكثرهم ترك مقاعد الدراسة في مراحل متقدّمة، وكثير منهم لا يفرّق بين الفاعل والمفعول به، ولا يحسن كتابة فقرة قصيرة من دون أن يرتكب مجازر في حقّ اللغة العربية.. إنّه لمن المعيب أن يتقدّم شاب ناجح ذكي يحمل مستوى جامعيا، ليسأل في قضايا الدّين شابا من ضحايا التسرّب المدرسيّ ويأخذ بكلامه ويعمل به، لا لشيء إلا لأنّ “المفتي” يعفي لحيته.. وسائل طلب العلم أصبحت ميسورة مبذولة، ومواقع العلماء وصفحاتهم تملأ الإنترنت، وأبواب الأئمّة ومقصوراتهم مفتوحة للشّباب في كلّ وقت.. فليعرف شبابنا عمّن يأخذون دينهم.

مقالات ذات صلة