الرأي

من هو المجنون؟

أسوأ ما في جرائم القتل، أن تبقى مقيّدة ضد مرفوع عنهم القلم، وأسوء ما فيها أن يكون المجتمع، هو المتهم مع سبق الإصرار والترصد، والجريمة التي هزّت مدينة وهران، عندما ذبح شاب مختل عقليا، شقيقيه وانتحر تحت عجلات شاحنة، وجريمة سطيف التي قتل فيها شاب زوجته الشابة بسبب إصابته بهزّة نفسية، وجريمتا شرشال والبليدة المقيدتان ضد “مجنونين”، تجرّنا للسؤال الكبير عن المختل الحقيقي في هذه الأحداث، بعد أن تصاعد رقم الجرائم التي اقترفها هؤلاء المرضى النفسيون، الذين ظلمهم المجتمع وعائلاتهم والدولة بحرمانهم من العلاج، فتحوّلوا إلى جزّارين، دفع ثمن مرضهم الأبرياء في بلد اختلط فيه الفقر بالثراء، والذكاء بالغباء، والعلم بالجهل، والخير بالشرّ، وأيضا العقل بالجنون.

البحث عن أعذار للسقوط الحر الذي يشهده المجتمع، هو في حد ذاته سقوط غير حر، في عملية تشخيص الداء المزمن الذي حوّلنا إلى مسرح، نقدّم عبره كل أنواع الجرائم في قلب المدن الكبرى، وبتصاعد على طريقة المتتاليات الهندسية، وعندما يجد القاضي أمامه ملف مذبحة، قضت على عائلة بالكامل، مقيّدة ضد مختل عقليا ويغلق الملف، فإن البحث عن المتهم الحقيقي ضروري، لأن الدولة اهتمت بالأصحاء وتناست المعاقين، واهتمت بالعقلاء وتناست المختلين عقليا، كما اهتمت دائما بالمحتجّين الثائرين وتناست المسالمين، وهي بذلك تؤسّس بسياستها “المجنونة” لدولة مجنونة، لن تترك عند ثورتها في البلاد، قلبا ولا عقلا.

آخر النكت العابرة للقارات، تحدثت عن إصابة وزير النفط السابق شكيب خليل، خلال فترات متعاقبة من حياته بأزمات نفسية، كان ينسى فيها اسمه، واسم البلد الذي نهب ماله، دون أن ينسى خارطة آبار النفط طبعا، وإذا صحّت هذه “النكتة”، فإن وضعنا صار نكتة، ولا يمكننا أن نقدّم أنفسنا للعالم بأقل من صفة الجنون، لأن الذي يقدّم هذه الوصفات زورا، أو الذي تعامل لعشرية كاملة مع هذه الحالة إن صحّت، لا يمكن أن يكون سوى مجنونا، ولكن القلم غير مرفوع عنه.

أن يبقى الشعب والدولة، ينفخان من كير آبار النفط، وأن يتواصل تهميش الدماغ لصالح أعضاء أخرى في الجسم، وأن تبقى الجزائر أكبر معدة في العالم، تلتهم ما طاب وما لم يطب من مطاعم مشارق الأرض ومغاربها، حتى لا نقول من حاويات القمامة فيها، فذاك هو الجنون بعينه، فكل الأرقام التي تتحدث عن ثروات الجزائر وثوراتها وثرائها ومساحتها وعدد سكانها، والأرقام المتناقضة التي تتحدث عن تخلّفها وانهيار اقتصادها، وارتفاع نسب الجريمة فيها، تؤكد أن المعادلة مقيّدة ضد المرفوع عنهم القلم، وللأسف فإن المعني برفع القلم عنه هو شعب ودولة.

 

لقد حان الوقت، لإدخال كل هذه الحالات الاقتصادية والثقافية والنفسية إلى العيادة، لأن تعطّل الكشف السريري، سيعطل بلوغ مرحلة التشخيص الحقيقي، وهو ما يجعل العلاج أبعد من أي وقت مضى.   

مقالات ذات صلة