-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مُذكّراتُ رجال الثّورة التّحريرية

لمباركية نوّار
  • 1033
  • 0
مُذكّراتُ رجال الثّورة التّحريرية

لا يأتي اسم المذكرات إلا جمعا لمّا يتعلق الأمر باستنطاق الذاكرة. وليست هذه الملاحظة وقفا على لغة الضاد وحدها، وإنما تتكرر مع اللغات الأخرى، ففي اللغة الفرنسية يقال: “Les mémoires” بصيغة الجمع. واسم المذكرات مشتق من: التذكر الذي يعني الاسترجاع، أي استحضار المعلومة أو الحادثة المخبوءة في الذاكرة بعد مرور زمن من تحصيلها أو حصولها.

هناك من اجتهد وألزم نفسه وضع حاجز فاصل بين المذكِّرات والسيرة الذاتية، وعمل على التفريق بينهما رغم وجود نقاط تلاق بينهما واشتراكهما في حيِّز واضح من التقاطعات والتشابكات. وإذ تتفق المذكّرات والسِّير الذاتية في كونهما محاولات جريئة لنبش الماضي واستنطاق مخزون الذاكرة وبعثه من جديد، فإن صاحب المذكرات ليس مطالَبا بسرد كل فصول حياته سردا كرونولوجيا متواصلا ومتسلسلا كما يفعل كاتب السيرة الذاتية. ومن جانب آخر، فإن المذكرات تنحو بقدر أكبر وأساسي نحو الأحداث التي كان صاحبُها صانعا لها أو شاهدا عليها أو معايشا لأطوارها كاملة أو لأجزاء منها.

الثورة الجزائرية التي قامت ضد المستعمِر الفرنسي هي ثورة جليلة وعظيمة، حصدت الاعترافات والإعجاب من الشرق ومن الغرب، وألهمت شعوبا كثيرة كانت تئنُّ تحت أقدام الظلم للانتفاض والمقاومة بحثا عن الحرية والانعتاق. وتكمن قوة هذه الثورة التي هزت عرش فرنسا الاستعمارية وأسقطته في الرّغام، في قوة انتشارها واستمرار صيرورتها بنفَس قوي ومتجدد لم يكن يرضى عن الاستقلال بديلا. وبضخامة التضحيات الجسام في الكتلة البشرية حتى تجاوزت العدّ وانسلخت من الحساب.

أرى أن انتشار ظاهرة كتابة مذكرات رجال الثورة في السنوات الأخيرة من طرف المشاركين فيها إيجابيةٌ تستحق التشجيع بغضّ النظر عن مستويات الكتابة ودرجة التحكم في اللغة وأنماط تبويب المادة المعروضة وطرائق إخراجها إلى القراء؛ لأن العبرة تتحدد في جمع أحداث هذه الثورة والتقاطها من أذهان المجاهدين الذين يتناقص عددهم يوما بعد يوم. وعلينا أن نعترف بأننا كنا مقصرين في الإسراع بهذا العمل تحت وقع ظروف ورؤى يطول الخوض فيها. وأذكر أنني سررت يوما لما علمت أن معلما طلائعيا موهوبا، وهو العم السبتي أحمان، تحمَّل مؤونة كتابة مذكرات المجاهد شعبان حبرة في كتيب أنيق، ولكنه لم يكن راضيا عنها تمام الرضا، حسب ما علمت. وطلبت نسخة منها، ولما قرأتها وجدتها خالية من كل تزويق أو تنميق رغم البطولة الجهادية العالية لمن كتب عنه، ولذلك أعجبت بها، وأثنيت عليها. ولما التقيته، كررت له إعجابي وثنائي، فسُرَّ بما سمع مني.

مثل هذه الانحرافات التي تنسي حتى الحديث المقتضب عن الأعمال الفظيعة والشنيعة للمستعمر البغيض، لا تخدم الحقيقة، وتخمد شعلة الانتصار للوطن، وتترك انطباعا سلبيا في نفوس الأجيال الصاعدة. وقد قرأت مرة، أن أحد رجالات ثورتنا الكبار سلم مذكراته إلى ابنته لقراءتها بعد أن أتم كتابتها. وبعد أيام، واجهته بالسؤال المحرج الموالي: (يا أبي، هل قمتم بالثورة ضد فرنسا، أم من أجل تصفية الحسابات فيما بينكم؟).

يصعب أن نقف في وئام على خيوط الاتفاق حول منهجية مشتركة ومتبعة في كتابة مذكّرات رجال ثورتنا التحريرية. وتعود الاختلافات إلى المستويات التعليمية للمجاهدين الذين بادروا بكتابة مذكّراتهم بأنفسهم أو بأقلام المحررين الذين استعانوا بهم، واستلموا منهم يد العون. وهناك من وجد فيها فرصة متاحة لتصفية حسابات قديمة، أو لإبراز مناقب شخصية أو قبلية أو جهوية ولو تحايلًا على التاريخ، أو للرفع من مقامات بعضهم والنيل من مقامات آخرين. ولا تخدم مثل هذه الانحرافات التي تنسي حتى الحديث المقتضب عن الأعمال الفظيعة والشنيعة للمستعمر البغيض، لا تخدم الحقيقة، وتخمد شعلة الانتصار للوطن، وتترك انطباعا سلبيا في نفوس الأجيال الصاعدة. وقد قرأت مرة، أن أحد رجالات ثورتنا الكبار سلم مذكراته إلى ابنته لقراءتها بعد أن أتم كتابتها. وبعد أيام، واجهته بالسؤال المحرج الموالي: (يا أبي، هل قمتم بالثورة ضد فرنسا، أم من أجل تصفية الحسابات فيما بينكم؟).

تختلف الغايات من الإطلاع على مذكرات رجال الثورة بين جموع القراء. وينقسم قرّاؤها، في الغالب، إلي فصيلين كبيرين. أما الفصيل الأول؛ فيقرأها رغبة في التعرف عن أحداث الثورة التحريرية أو تطلعا إلى اكتشاف المزيد من تفاصيلها ودقائقها، وما تخلَّلها من بطولات لا تُنسى ومن مواقف لا تُمحى صنعها المجاهدون وعُدّت من البطولات في ساحات الوغى وفي السجون والمعتقلات وقاعات التعذيب، وحتى في لحظات الإعدام. وهناك من يقرأها فضولا وتعطشا وتنقيبا عن إجابات للأسئلة الكبرى والملغمة التي خرجت من صلب أحداث الثورة، واختلف الناس في الإحاطة بأسرارها، وفي رصد إجاباتٍ مقنعة عنها بمنأى عن التأويل المغرض وبعيدا عن التفسير الملتوي والمنقلب، وتجنبا للشخصنة المثيرة والتحليل المصاب بعَور فقدان الموضوعية.

تكون هذه المذكرات نافعة لما تنزل إلى مستوى الثقافة الشعبية العامة التي تلامس أكبر عدد من طبقات الشعب بمختلف أجياله. لأن الصعود بها إلى المستويات العليا يقلل من دائرة المستفيدين منها. وقد أنجزتُ مذكرات أراد محرِّروها أن يمنحوها طابعا بحثيا أكاديميا متزمِّتا فضيعوا الفائدة المرجوة منها، وهجرها نفرٌ كبير من القراء، وأعرضوا عنها. وهناك مذكرات كُتبت في مئات من الصفحات لو تُنقّح وتُصفّى لن يبقى منها سوى عُشرِها، أو أقلّ.

يمنحنا الدكتور مصطفى عشوي، وهو أستاذٌ جامعي مرموق، وباحث بارز، وصاحب أبحاث نفيسة في مجال علم النفس، بعد أن تطوَّع لكتابة مذكرات خاله التي أخرِجت للقراء في سنة 2020م تحت عنوان: “مذكرات المجاهد شعبان محرز.. شهادة مثيرة عن أقدس مسيرة”، يمنحنا نموذجا في كتابة مذكرات رجال الثورة من خلال جملة المزايا التي تحلى به منجزه.

تحرر الدكتور مصطفى عشوي من قيود وضوابط الكتابة الأكاديمية الرصينة، وما تقتضيه من لغة علمية دقيقة وعبارات صلبة، والتزامات مقيدة، وتصدى لتدوين هذه المذكرات بلغة شفيفة وأسلوب أدبي سلس وخال من الوعورة اللفظية تذكِّرنا بأسلوب الروائي مولود معمري في روايته “ابن الفقير”. وهذه مزايا مستحسَنة؛ لأنها خالفت السائد والمعهود المتمثل في تولي بعض المجاهدين كتابة مذكراتهم بأنفسهم. والدفع بها إلى القراء في تنظيم مرتبك ولغة محشوة بالأخطاء والإطالات المملة والتكرار المقلق. وهذه العيوب تنفّر القارئ غير الصبور، وتجعل المرويات مبهمة ومستغلقة وتعرقل الفهم وتصيبه بالكبت. وبذلك تضيع الفائدة مع أدراج الرياح وتذهب هباءً منثورا.

نضيف إلى ما سبق ذكره، موقف الدكتور مصطفى عشوي موقف المحرر الأمين والناقل المحايد مع كل الفقرات التي تحدثت عن أحداث هذه المذكرات. فهو لم يكلف نفسه حتى التعليق عليها رغم قدرته على فعل ذلك. وإنما اكتفى بسرد الأحداث سردا يخلو من المغالاة والتعظيم سواء تعلق الأمر بالأشخاص المذكورين ومنهم قادة عظام لا يُشقُّ لهم غبار في بلائهم الجهادي وبطولاتهم، أو ارتبط بالمنطقة أو المناطق المحاذية لها التي دارت فيها هذه الأحداث.

قابل الدكتور مصطفى عشوي مقدار الغنى الذي تميزت به هذه المذكرات وتكاثرها وتتابعها، ببذل جهدٍ كبير فيما يبدو في ترتيبها وإبراز تسلسلها حلقة إثر حلقة. وكم من مرة وجدته يشير إلى حادثة من باب الاضطرار قبل الوصول إليها، ولكنه يرجئ تفاصيلها إلى حين حلول موعدها الزمني حتى لا يخلّ بمعيار الانسجام الرابط بين تلاحق الأحداث. ولا شك أنّ راوي هذه المذكرات، وهو خاله المجاهد شعبان محرز، قد ظل مطاوعا له كالأسير الذي لا يمكن له أن يخالف السير عن الخط الذي رُسم له. وأما الأسير الثاني فهو القارئ الذي يصعب عليه التوقف عن تقليب صفحات الكتاب حتى لا يفقد خيط الربط بين أجزاء سطوره.

من يقرأ هذه المذكرات يقف على حقائق تاريخية كثيرة، منها أن الاستعمار الفرنسي عامل الجزائريين معاملة واحدة من حيث القسوة والتشدد والفظاظة والخشونة في كل بقعة في الجزائر، وأن أساليب معاملاته كانت واحدة من حيث التضييق على أبنائها والاعتداء عليهم وعلى حُرماتهم وممتلكاتهم بعنف لا يطاق، ومشقّة لا تُحتمل، والانتقام منهم في مكر.

يكتشف القارئ المنصف لهذه المذكرات التي نحن بصدد الحديث عنها أن هناك رجالا أكفاء وأوفياء لم يكونوا من بين رجال الصف الأول البارزين في الولاية الثالثة التاريخية، وكما في بقية الولايات الأخرى، إلا أنهم وقّعوا بدمائهم بطولاتٍ جهادية خلَّدت أسماءهم في سفر الثورة. ولم يغفل صاحب المذكرات ذكرهم والإشادة بهم. وكذلك كان الحال مع الحرائر الشهيدات البطلات والمجاهدات الكريمات.

تشابهت الأيام في منطقة “أكفادو” التي دارت فيها معظم أحداث هذه المذكرات، وهي منطقة تضمّ خمس عشرة قرية من حيث وتيرة الأعمال العسكرية التي كان المجاهدون يقومون بها بشكل متواصل، ليلا ونهارا، من خلال الكمائن والهجومات المباغتة والمعارك، ومن حيث ردود أفعال الجيش الفرنسي العنيفة التي كان يسلطها على السكان للانتقام منهم وترهيبهم وتخويفهم والافتنان في أساليب تنفيذ خططه الإجرامية بلا رحمة ولا شفقة. ولولا حفظ الله ومن بعده غابة “أكفادو” ذات الغطاء النباتي الكثيف الذي وفَّر الحماية للمجاهدين وللمواطنين أثناء فرارهم من البطش في أغلب الأوقات لبلغ الفقد في الأرواح أضعاف ما حصل.

لعل المحفز الآخر الذي شجَّع الدكتور مصطفى عشوي على خوض هذه التجربة في كتابة مذكرات خاله المجاهد شعبان محرز هو كونه واحدا من أطفال الثورة، وإن ما عايشه، وهو طفل صغير، حرك في بواطن نفسه شهية تخليد شطر من ثورتنا بعد أن سبقته المشاركة فيها.

يتعذّر استعراض كل تفاصيل هذه المذكرات، ولكن ما يهمُّنا هو أن محررها عرض أمامنا نموذجا يمكن الاحتذاء به في كتابة مذكرات رجال ثورتنا التحريرية نظرا لما يتضمّنه من أفضال كتابية تفتقر إليها كثيرٌ من المحاولات في هذا الجانب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!