الرأي

ها قد عدنا يا ابن باديس!

سلطان بركاني
  • 3222
  • 0

يَذكر التّاريخ الحديث، أنّ الجنرال الفرنسيّ “هنري غورو”، عندما دخل دمشق منتصراً، بعد معركة “مَيْسَلون” الشّهيرة، في الـ24 أوت 1920م، اتّجه إلى قبر صلاح الدّين الأيوبي ـ رحمه الله ـ بجوار الجامع الأمويّ، ووقف عليه وخاطبه قائلا: “ها قد عدنا يا صلاح الدّين”.

تذكّرتُ هذه الواقعة وأنا أتابع بمضض سيل الإهانات التي اختار المتنفّذون في هذا البلد توجيهها إلى شخص الإمام ابن باديس وإلى تراثه وميراثه، في مدينته ومهد دعوته الإصلاحية، خلال فعاليات تظاهرة قسنطينة عاصمة الثّقافة العربية؛ لم يكْفِهم أنّهم جعلوا من ذكرى وفاته يوما للعلم!، ذاهلين عن قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يُبق عالما اتّخذ النّاس رؤوسا جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)؛ وقد كان الأجدر بهم، لو كانوا يرفعون للعلماء رأسا، أن يحتفوا بالعلم في ذكرى ميلاد الإمام ابن باديس أو ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لكنّهم أبوا إلا أن يعلنوا التخلّي عن ميراثه ووأد تراثه، وقد تُرجم هذا الخيار إلى واقع، يوم أصبحت كتب ابن باديس وآثاره من أندر وأعزّ الكتب في بلده، بل وفي مدينته.

لم يكفهم هذا وذاك، حتى نصبوا له تمثالا مسيئا لشخصه وصورته ودعوته، في وسط مدينته، وسمحوا بالعبث به والمجون في ساحته، وبلغت الإساءة منتهاها حين اصطحبت بعض الوفود راقصات شبه عاريات يرقصن غير بعيد عن تمثال ابن باديس الذي يحمل في إحدى يديه مصحفا، هذا فضلا عن الطقوس العيساوية وبعض المظاهر التي حاربها ابن باديس في حياته، في مشاهد جعلت الغيورين على الإمام المصلح في هذا البلد يتساءلون مستنكرين عن علاقة هذه العروض بالثّقافة والعلم؟ بل وشكّك بعضهم في وجود نية مبيّتة لدى بعض الأطراف للإساءة إلى الإمام المصلح وبعْثِ رسالة مفادها أنّ زمانه قد ولّى إلى غير رجعة، وهو ما فهمته عائلة ابن باديس التي طالبت بإزالة التّمثال، وقد عزّز هذه الشّكوك في تعمّد الإساءة لابن باديس، سماح المتنفّذين لبعض الشّباب المستهترين، بالسخرية والعبث بتمثال الإمام، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى وضع سيجارة بين شفتي التّمثال وأخذ صور معه، هؤلاء الشّباب مع شناعة ما فعلوه، هم ضحايا سياسة كان قد حذّر الإمام الإبراهيمي من تبعاتها في رسالته التي وجّهها إلى المسؤولين في الذّكرى الـ24 لوفاة ابن باديس، يوم 16 أفريل 1964م، حيث كتب يقول: “كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنيّة مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلّمت مشعل الجهاد في سبيل الدّفاع عن الإسلام الحقّ والنهوض باللغةذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله ـ إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قرّرت أن ألتزم الصّمت. غير أنّي أشعر أمام خطورة السّاعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ أنّه يجب عليّ أن أقطع الصّمت.. إنّ وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبّط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحلّ، ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أنّ شعبنا يطمح قبل كلّ شيء إلى الوحدة والسّلام والرّفاهية، وأنّ الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تُبعث من صميم جذورنا العربية والإسلامية لا من مذاهب أجنبيّة… ” ا. هـ.

هذا ما قاله الإمام الإبراهيميّ من منفاه قبل 51 سنة، فماذا عساه كان يقول لو أدرك أيامنا هذه، ورأى ما نراه من نكوص غير مسبوق عن القيم التي عاش لأجلها ابن باديس وإخوانه، وتبنّاها تلامذتهم وأبناؤهم الذين فجّروا ثورة الفاتح من نوفمبر وضمّنوها بيانهم الذي أصدروه وعبّروا فيه عن الوِجهة التي أرادوها لهذا البلد؟

مقالات ذات صلة