-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل اللغة الأجنبية غنيمةٌ ومكسب؟!

خير الدين هني
  • 1526
  • 0
هل اللغة الأجنبية غنيمةٌ ومكسب؟!

أصبح النقاش حول المشكلة اللغوية بين النخب المعربة والمتفرنسة يأخذ أشكالا تكاد تكون هادئة ومتعايشة إلى حد ما في ظاهرها الشكلي المعلن، ولكنها تصل إلى حد النشاز والتنابز حينما تطرح في مجالاتها المقاولاتية والوظيفية، وتأخذ أبعادا حادة في النقاش حين ترتبط بقيم الحضارة والتاريخ والهوية والتطور… ويصل الأمر في كثير من الأحوال إلى التصادم والتراشق، كل يدافع عن وجهة نظره ويعتبرها حقيقة مطلقة.

والنقاش –في أساسه- يُناط بماهية اللغة وعلاقتها بالوظيفة التي تؤديها في الحياة، وهي في هذا الموضوع تطرح جدلية، فيذهب الناطقون بالفرنسية إلى اعتبارها أداة تواصل بين البشر فحسب، تؤدي وظيفة تواصلية ليس إلا، ولذلك اعتبروها غنيمة ومكسبا تيسّر اكتسابها في ظروف استعمارية قاسية ومن غير جهد يذكر، ومادامت كذلك فلماذا نتخلى عنها وقد منّ الله تعالى علينا بهذه النعمة لاسيما وأنها لغة علم وفلسفة وأدب وفن وتكنولوجيا ونستبدلها بلغة قديمة –حسب زعمهم- لا تعبّر إلا عن العواطف الدينية والأدبية والأخلاقية في صورها التقليدية وهي لا تنفع في شيء، كما تخلى الغرب عن اللاتينية أثناء قيام اللغات القومية في أوروبا الحديثة؟! ونحن حيـنما نستغل هذه اللغة الغنيمة ستنقلنا إلى عالم الكمال والجمال والفن والأدب والرقي والتمدن والحضارة في أسمى الصور، تنقلنا بأقل جهود وأسرعه، وقد دافع هذا الفريق عن وجهة نظره واستمات من أجلها، على حين يذهب الفريق الآخر من المعربين ممن تشرّبوا قيم الثقافة القومية وآدابها إلى اعتبار اللغة أداة فكر قبل أن تكون أداة تواصل، بمعنى أن الإنسان يلغو بفكر ويفكر بلغة، ويستدلون على ذلك بما قرّره علماء اللغة المحدثون، وهذا هو المعتبر لدى الأمم والشعوب حتى البدائية منها.

لو كانت اللغات الأجنبية تطوّر العقل البشري العادي أو الضعيف أو البليد، لتطورت المستعمرات الناطقة بهذه اللغات، لأنها تُسيّر دواليب دولها باللغات الأجنبية منذ عقود من الزمن، وهذه الذهنيات الناطقة بهذه اللغات والمتأثرة بها، هي من تسبّب في نكبة بلدانها وتخلّفها ونشر الفساد الرهيب فيها، وأوصلت بلدانها إلى هذا الانهيار الكبير في كل المنظومات التي أنشأوها لتسيير بلدانهم، والأخطر من ذلك أن أصبحت بعض هذه البلدان تعيش بدون هوية لغوية وثقافية، وتنازعتها الهويات والعرقيات والإثنيات والثقافات.

على أن المعنى لا يَرِد إلى الذهن إلا مرتبطا بالكلمات والألفاظ، وأن المعنى لا يمكن أن ينبثق في الذهن مجرّدا من اللفظ، فالإنسان حينما يفكر في المعاني والأخيلة والصور تأتي الكلمة مباشرة لتحمل الصورة المفكرة أو المتخيلة، وهنا ترد إشكالية فلسفية أخرى: هل الفكر سابقٌ للغة أم اللغة سابقة للفكر؟ والجدل في هذه المسألة عقيمٌ ولا يغني عن الحقيقة بشيء، فالقرآن الكريم حينما أخبرنا عن قصة تعامل أبينا آدم عليه السلام مع المعاني المحيطة به، إنما علّمه الكلمات التي يعبّر بها عن هذه المعاني بقوله تعالى: “وعلّم آدم الأسماء كلها”، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مسمّيات الأشياء التي يستعملها في حياته اليومية، ونفهم من هذا أن اللغة والفكر جاءا متلازمين لبعضهما.

وهذه الجدلية المختلف عليها في شأن الظاهرة اللغوية وما تؤديه من وظائف، لا ترجع إلى الحقيقة اللغوية في حد ذاتها وما تؤديه من وظائف، وإنما ترجع في أساسها إلى الفكرة الأيديولوجية التي تؤمن بها هذه الأطراف والتي ساعد على تنميتها في عقولهم المؤثرات الثقافية للغة التعلّم؛ فأصحاب الرأي الأول يعزلون الظواهر الوطنية والقومية وتأثيراتها الثقافية والقيمية عن المكاسب النفعية التي تحققها الوظيفة اللغوية في عالم الشغل والوظيفة المقاولاتية، أو القيمة الاعتبارية حينما يظهرون برطانتهم اللغوية أمام الناس، وهم مزهوُّون بأنفسهم حين ينتابهم الإحساس بالتفوُّق والتميّز عن غيرهم، وحين يتحدثون بملء أفواههم ويتشدقون وحين يسلكون طرق الخطأ في أدبهم وسلوكهم وتحليلهم وتعليلهم وتقويمهم، وحين ينحرفون في توجيه المعاني إلى غايات غير صحيحة مشحونة بالتناقض المنطقي الذي تعبّر عنه حقائق الواقع الإنساني.

هكذا تبدو لهم الصورة في مظهرها الخارجي متجلية في أذهانهم، فضلا عن اعتبارها أداة فعالة في نقل التكنولوجيا والأساليب الحضارية الراقية إلى البلاد.

ويعتبر الفريق الثاني من خلال دراسة المنهج المقارن، ضمن الظاهرة السلوكية للشعوب والأمم عبر السيرورة التاريخية، ومن طريق التجارب والمحطات التي مرت بها المجتمعات المختلفة، أبانت بأن اللغة الأجنبية بدون تحصين ثقافي بلغة الأم، ستشكل خطرا على توازن الإنسان الوجداني والنفسي والفكري، لما لها من تأثير سلبي على عقول الناس وتفكيرهم ونفسياتهم وسلوكياتهم ونظرتهم إلى الحياة، فيرى هذا الفريق بأن تعلم اللغات الأجنبية الكبرى ضرورة ملّحة لا تقبل النقاش، تفرضها طبيعة الحياة المتشابكة في العلاقات الدولية، ولكن بعد تحصين الناشئة والأجيال بلغة الأم ومحتوياتها الأخلاقية والثقافية والفنية والفكرية، من دين وأخلاق وأعراف وتقاليد وما إليها، لأن الفرد إذا كان مُحصّنا بالثقافة الوطنية المعبّر عنها بلغة الأم، لا يُخشى عليه من الانحلال والذوبان في الثقافات الأخرى، ولا يُخشى عليه -أيضا- من فقدان هويته الوطنية والثقافية وروابطه الاجتماعية والأيديولوجية والقومية، ومن الضياع في عالم تشحنه الصراعات والأيديولوجيات والمؤامرات.

وحينما نؤشر بالواقع كشاهد على الحقيقة اللغوية، وكمعيار علمي على صدق هذه الحقيقة، يتبين لنا بأن الخلاف بين الفريقين له ما يسوّغه من الوجهة التاريخية، فالأحداث المتوالية في واقع الحياة تبين بأن الفريق الأول يخالف ما أجمعت عليه آراء الشعوب فيما يخص تأثير الظاهرة اللغوية على العقول والنفوس، فالشاهد التاريخي كمعيار علمي يُثبت أن المنفردين بتعلّم اللغات الأجنبية، من غير تحصينهم بلغة الأم يعانون من انفصام في الشخصية الوطنية والتاريخية والحضارية، فتراهم يحتقرون ذواتهم ويشكُّون في كل ماله ارتباط وجودي بالأمة، ويتحيزون لكل ما هو أجنبي، يميلون إليه ويدافعون عنه باستماتة، وولاؤهم –دائما- للقوى الأجنبية، لأنهم ينظرون إليها بعين الكمال الذي لا يعتريه النقص، والنظرية الخلدونية في هذا النطاق مازالت شاهدة على هذه المقولة الشهيرة “الضعيف مولعٌ بتقليد القوي في كل شيء”. حتى في المظاهر البسيطة.

واللغة هي وعاءُ المعاني كما قال الجاحظ، وهي تحمل ثقافة المجتمع وتراثه، وتعبّر عن آماله وهمومه وأحزانه وتطلعاته، والعقل البشري مُصمَّم -طبيعيا- على التأثر بما يتعامل معه على الدوام، واللغة هي من ينقل إلى الدماغ التنبيهات الخارجية، وهو لذلك يتأثر بكل ما يُخزّن في ذاكرته، والخلاف بين الفريقين إنما سببه ما تراكم في وعيهما من تكديس ثقافي أثناء عمليات التعلّم والتثقيف بلغة التعلّم. وهذا الاختلاف هو المؤشر العلمي الذي نقيس به قدرة اللغة على التأثّر والتأثير وانعكاس ذلك على الوجدان الإنساني.

والعقل الإنساني مُهيأ لنقل المعرفة وتقمّص معانيها وحقائقها في تفكيره وسلوكه وطريقة عيشه، ولا يستطيع الفرد أن يخرج عن الإطار الذي رسمته القيود الثقافية التي حملته إليه لغة التعلّم، فأصبح ذلك التراكم الثقافي يشكّل وعيه وهويته وشخصيته وطريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة.

ويمكن أن نستخلص في الختام، بأن اللغة لا سلطان لها على رفع قدرات الذكاء العادي إلى مستويات عليا من التفكير والإبداع، على نحو ما نراه لدى كبار العلماء والمفكرين والمخترعين والمكتشفين، ممن طوعوا قسوة الطبيعة بمخترعاتهم ومكتشفاتهم وإنجازاتهم، وهم الموهوبون ممن تتجاوز درجات ذكائهم 140 درجة، وقد يصل بعضهم إلى ما يفوق 200 درجة).

الذكاء الطبيعي بجيناته القوية، هو الذي يبدع ويخترع على غير سابق مثال وهو المراد في هذه الدراسة، أما الذكاء المكتسَب الذي تصقله الخبرات والتجارب وعمليات التعلّم والتثقيف والاحتكاك والممارسة، فهو ذكاءٌ عادي لا يؤهِّل صاحبه إلى الإبداع والاختراع والاكتشاف على نحو ما نجده عند المثقفين باللغات الأجنبية عندنا، ممن لم يستطيعوا إنجاز أي مشروع علمي أو فني له اعتباره التقني والتكنولوجي والابتكاري.

والمادة الدراسية وطرائق التعلّم والاستدلال التي يتلقاها الإنسان في مراحل تعلّمه هي التي تصنع عقله وتفكيره، وتطوّر تفكيره وتوسّع مداركه وخياله وتصوره وليس اللغة، ولو كانت اللغة هي التي تطور قدرات الإنسان الذهنية وإبداعاته ومواهبه لتطورت البلدان الإفريقية والعربية، ولحرمتنا الدول الاستعمارية صاحبة هذه اللغات من تعلّمها وإتقانها، مثلما حرمتنا من امتلاك التكنولوجيا العسكرية والتقنية المدنية.

ولكن هذه الدول تدرك حقيقة الإدراك، بأن اللغة لا تطوّر العقل العادي أو البليد، وتعلم أيضا بأن اللغة هي أفضل وسيلة تحوّل الفرد العادي أو الغبي إلى تابع ذليل، لا يُحسن إلا تقديم فروض الطاعة والولاء والتودّد والخنوع، لأنه فاقدُ الثقة في نفسه ومتشكّك في قدراته ومواهبه لاستسلامه لعواطفه وهواجسه، لذلك تبذل كل ما في وسعها من أجل إحلال لغاتها في مستعمراتها بالترغيب والترهيب، مثلما يحدث في بعض مستعمراتها المغلوبة على أمرها.

وعلى هذا تصبح مقولة اللغة غنيمة ومكسب، مثلما يزعم الفرنكفيليون عندنا، مغالطة كبيرة استخدمها هؤلاء الناس من أجل تمرير مشاريع تلك الدول التي أوكلت لهم مَهمَّة التبليغ، وتبعهم بعض الخيّرين ممن وقعوا في أوهام هذه المقولة بحسن نيّة، وعلى هذا يمكن اعتبار اللغات الأجنبية وسيلة جيِّدة للاندماج في العالم الصناعي والتحديث المقاولاتي، ولكنها وسيلة ذكية وخبيثة لاستعمار الشعوب الضعيفة واستعبادها لغويا وثقافيا وحضاريا، ثم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مثلما هو حاصل في المستعمرات المختلفة.

ولو كانت اللغات الأجنبية تطوّر العقل البشري العادي أو الضعيف أو البليد، لتطورت المستعمرات الناطقة بهذه اللغات، لأنها تُسيّر دواليب دولها باللغات الأجنبية منذ عقود من الزمن، وهذه الذهنيات الناطقة بهذه اللغات والمتأثرة بها، هي من تسبّب في نكبة بلدانها وتخلّفها ونشر الفساد الرهيب فيها، وأوصلت بلدانها إلى هذا الانهيار الكبير في كل المنظومات التي أنشأوها لتسيير بلدانهم، والأخطر من ذلك أن أصبحت بعض هذه البلدان تعيش بدون هوية لغوية وثقافية، وتنازعتها الهويات والعرقيات والإثنيات والثقافات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!