الرأي

‮”‬لسنا‮ ‬مسئولين‮ ‬عن‮ ‬جهلكم‮”‬

هذا العنوان ليس من بنات أفكاري، ولكنّ الله -عز وجل- أنطق به الأخ سمير حميطوش، حيث علّق به على “هدرة” شخص يعدّ نفسه على شيء، وأنه لم يخلق مثله في البلاد، فيمشي في الأرض مرحا، ويصعّر خدّه للناس؛ ويحسبه أصحابه شيئا مذكورا، وما عدّ نفسه كذلك، وما حسبه أناس شيئا مذكورا إلا الأقدار والحوادث التي عرفتها الجزائر، حيث رُفع مكانا عليّا لم يكن يحلم به لو كانت الأمور قد سارت سيرا طبيعيا، ولكنها سارت -وماتزال تسير- كما كان يردد الشيخ العباس ابن الحسين – رحمه الله-

يا‮ ‬دهر‮ ‬ويحك‮ ‬ماذا‮ ‬الغلظ

وضيع‮ ‬علا،‮ ‬ورفيع‮ ‬هبط‮!‬؟

هذا “الكائن المرح”، “المصعّر خده” ظن أنه باعتلائه منصبا ساميا، وامتلاكه صروحا وقصورا، وكنزه نصيبا من “وسخ الدنيا”، لا ندري من أين أوتيه؛ ظن أنه يمكنه أن يقدر الرجال حق أقدارهم، وأن “يشرّڤ فمو” فيهم، وهو الذي إن تحدث ولو باللّهجة العامية لا يكاد يبين، وإن “فكّر‮” ‬أكّد‮ ‬نظرية‮ ‬داروين،‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬أنه‮ ‬بالمختصر‮ ‬المفيد‮: ‬أينما‮ ‬توجّهه‮ ‬لا‮ ‬يأت‮ ‬بخير‮.‬

هذا الشخص راح “يهدر” عن الإمام عبد الحميد ابن باديس “هدرة”، تدل على جهل مركّب، والجهل المركّب – كما نعلم – هو الجهل الذي لا يعلم صاحبه أنه جاهل، ولو تفضل أحد الناس بتعليمه لوجده “غير قابل للتعليم”.

زعم هذا الشخص في “هدرته” في إحدى القنوات أن الإمام عبد الحميد ابن باديس دعا إلى الاندماج، وأنه لم يهتم بالقضية الوطنية، ونسي هذا الشخص أو تناسى أنه في الوقت الذي كان الإمام يجادل عن هويّة الجزائر “البعيدة عن فرنسا كل البعد”؛ كان والد هذا الزاعم “شامبيط” عند‮ ‬الفرنسيين،‮ ‬يحرس‮ ‬خنازيرهم،‮ ‬وينظف‮ ‬حمرهم‮ ‬وكلابهم،‮ ‬ويعدّ‮ ‬ابنه‮ – ‬وهو‮ ‬هذا‮ ‬الكائن‮ – ‬ليخلفه‮ ‬في‮ ‬مهمته‮ “‬النبيلة‮”‬،‮ ‬وقد‮ ‬فعل‮ ‬ذلك‮ ‬بضع‮ ‬سنين‮.‬

لقد قلنا عدة مرات – لو كانت هذه الكائنات تسمع أو تعقل – بأن الذي يدعو إلى أمر يكون أول آتيه، فليتفضل هذا “الكائن” الذي يهرف بما لايعرف وليظهر لنا أين وجد دعوة ابن باديس إلى الإدماج، وأين طلب ذلك؟ ومتى، وكيف ظهر اندماج ابن باديس في فرنسا؟

إن حجة هذا الكائن – وأمثاله – الدّاحضة هي أن الإمام ابن باديس شارك في المؤتمر الإسلامي الذي كان من مطالبه “إلغاء الولاية العامة وإلحاق الجزائر بفرنسا، وانتخاب ممثلين جزائريين في البرلمان الفرنسي”.

وليعلم‮ ‬هذا‮ ‬الكائن‮ ‬أن‮ ‬ميصالي‮ ‬الحاج‮ – ‬رحمه‮ ‬اللّه‮ – ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يشترك‮ ‬في‮ ‬المؤتمر‮ ‬الإسلامي‮ ‬قبل‮ ‬جميع‮ ‬مطالب‮ ‬المؤتمر‮ ‬ماعدا‮ ‬المطلبين‮ ‬السالفي‮ ‬الذكر‮..‬

ما أظن أن ميصالي الحاج فهم بعد مطلب “إلغاء الولاية العامة وإلحاق الجزائر بفرنسا” وذلك لأن بُعد هذا المطلب -ببساطة- هو إلغاء ميزة كبرى كان يتمتع بها المستوطنون الفرنسيون، وهي سيطرتهم على ميزانية الجزائر التي كان يوجهونها – عبر المجلس المالي – لمصالحهم، غير تاركين‮ ‬للجزائريين‮ ‬غير‮ ‬الفتات‮.‬

فإذا‮ ‬ألحقت‮ ‬الجزائر‮ ‬في‮ ‬تسيير‮ ‬شؤونها‮ ‬بفرنسا‮ ‬كان‮ ‬نصيب‮ ‬الجزائريين‮ ‬أكبر‮ – ‬قليلا‮ – ‬من‮ ‬ذلك‮ ‬الفتات،‮ ‬إلى‮ ‬أن‮ ‬يبدل‮ ‬الله‮ ‬الحال،‮ ‬ويداول‮ ‬الأيام‮ ‬بين‮ ‬الناس‮.‬

ثم إن فرنسا كانت تشترط لكي يتم هذا الإدماج السياسي للجزائريين فيها أن يتخلى الجزائريون عن أحوالهم الشخصية الإسلامية، وهو ما كانت ترفضه “جمعية العلماء” وعلى رأسها الإمام ابن باديس، فكان تمسك الجمعية بشرط عدم تخلي الجزائريين عن أحوالهم الشخصية الإسلامية بمثابة‮ “‬مسمار‮ ‬جحا‮”.‬

ثم‮ – ‬مرة‮ ‬أخرى‮ – ‬كيف‮ ‬يستقيم‮ ‬اتهام‮ ‬الإمام‮ ‬ابن‮ ‬باديس‮ ‬بطلب‮ – ‬أو‮ ‬قبول‮ – ‬الإدماج‮ ‬وهو‮ ‬القائل‮:‬

شعب‮ ‬الجزائر‮ ‬مسلم‮       ‬

‮    ‬وإلى‮ ‬العروبة‮ ‬ينتسب

من‮ ‬قال‮ ‬حاد‮ ‬عن‮ ‬أصله‮      ‬

‮    ‬أو‮ ‬قال‮ ‬مات‮ ‬فقد‮ ‬كذب

أو‮ ‬رام‮ ‬إدماجا‮ ‬له‮            ‬

‮  ‬رام‮ ‬المحال‮ ‬من‮ ‬الطلب‮…‬؟

لقد ردّ الإمام ابن باديس على فرحات عباس الذي كان آنذاك يؤمن بإدماج الجزائريين في فرنسا ويدعو إليه؛ رد عليه الإمام ابن باديس قائلا: “إنكم عندما تسعون لسياسة الاندماج، وتحبذون التجنيس وترضون ضياع حقوقنا الإسلامية مقابل حق الانتخاب، وتريدون – خلافا للطبيعة – أن‮ ‬يصير‮ ‬جمهور‮ ‬المسلمين‮ ‬بهذه‮ ‬البلاد‮ ‬جمهورا‮ ‬فرنسيا‮ ‬بحتا‮ ‬لا‮ ‬يختلف‮ ‬عن‮ ‬الجماهير‮ ‬الفرنسية‮ ‬في‮ ‬شيء؛‮ ‬إنكم‮ ‬عندما‮ ‬تسعون‮ ‬وتحبذون‮ ‬هذا‮ ‬لا‮ ‬تمثّلوننا،‮ ‬ولا‮ ‬تتكلمون‮ ‬باسمنا،‮ ‬وإنكم‮ ‬في‮ ‬واد‮ ‬والأمة‮ ‬في‮ ‬واد‮ (‬1‮)”.‬

إذا كان فرحات عباس – رحمه اللّه – قد فهم كلام ابن باديس، لأنه – فرحات – “قابل للفهم”، فاعترف بخطإه، واستغفر لذنبه، وتخلى عن مطلبه؛ فإن هذا “الكائن” مايزال – بعد خمسين سنة من “استرجاع” الاستقلال – يرجو أن ترضى عنه فرنسا، و”يلهث” وراء ذلك، وهو “يتشرف” إذ يعتبر‮ ‬نفسه‮ ‬عين‮ ‬فرنسا‮ ‬في‮ ‬الجزائر،‮ ‬وأذنها،‮ ‬ويدها‮ ‬التي‮ ‬تبطش‮ ‬بها،‮ ‬و‮”‬سوستها‮” ‬التي‮ ‬تنخر‮ ‬بها‮ ‬الجزائر‮..‬

ونزيد هذا “الكائن” »غير القابل للفهم« نصا آخر للإمام ابن باديس لعل الله – عز وجل – يفتح عليه ويصير قابلا للفهم، وهذا النص يفهمه حتى تلاميذ مدرسة “الإصلاحات” التي صيرتهم…، يقول الإمام – عليه الرحمة والرضوان: “ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت؛ بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لانريد أن تندمج، ولها وطن محدود معين، هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة” (2).

وأما المطلب الثاني الذي يستدلّ به الزاعمون على أن ابن باديس دعا إلى الإدماج – ومنهم هذا “الكائن” – وهو “تمثيل الجزائريين في البرلمان الفرنسي” لإسماع صوت الجزائر فإننا نسأل ميصالي الحاج – رحمه الله – ونسألهم، ولا نريد منهم جوابا لأنه محرج لهم، وهذا السؤال هو‮: ‬لماذا‮ ‬ترفضون‮ ‬هذا‮ ‬المطلب‮ ‬في‮ ‬سنة‮ ‬1936،‮ ‬وتقبلونه،‮ ‬وتعسون‮ ‬إليه‮ ‬وتلهثون‮ ‬وراءه‮ ‬بعد‮ ‬عشر‮ ‬حجج‮ ‬من‮ ‬ذلك؟‮ ‬ألا‮ ‬إنكم‮ ‬من‮ ‬إفككم‮ ‬لمحجوجون‮…‬

لو كان أمر حجج وإقناع لاستطاع أبسط تلميذ – ولو من مدرسة “إصلاحاتهم” – أن يسوق من الحجج والبراهين على سفاهة هذا القول ما لا قبل به لأصحابه؛ ولكنهم ممن وصفهم الله – عز وجل – بأن لهم عيونا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفهقون بها..

إنهم بقولهم وتقوّلهم على ابن باديس وجمعية العلماء إنما يريدون أن يرفعوا خسيستهم، وأن يلفتوا الأنظار عن “جريمتهم” وهي جعل الجزائر “المستقلة” ذيلا لفرنسا، التي أمرتهم بحراسة مصالحها، والتّمكين للغتها، ونشر مبادئها.. ونسوق لهؤلاء القوم – الذين لا يكادون يفقهون حديثا – كلاما لأحد أسيادهم الفرنسيين، وهو أوغسطين بيرك، والدهم مثلهم الأعلى وقرة أعينهم جاك بيرك، وهذا الكلام هو: “إن حركة جمعية العلماء المسلمين (الجزائريين) تشكل الخطر الأكبر على الوجود الفرنسي في الجزائر بسبب إعادتها الاعتبار للغة العربية الفصحى، وبسبب‮ ‬منظورها‮ ‬الإصلاحي‮ ‬للدين‮ (‬3‮)”.‬

‭————–‬

‮  ‬آثار‮ ‬الإمام‮ ‬ابن‮ ‬باديس‮: ‬ج5‮. ‬ص‮ ‬290

2‮  ‬المصدر‮ ‬نفسه‮ ‬ج5‮. ‬ص‮  ‬282

3  ‬صادق‮ ‬سلام‮: ‬فرنسا‮ ‬ومسلموها‮. ‬ص403

مقالات ذات صلة