الدعوة إلى العامية باطلة علميا وبيداغوجيا
نسف أستاذ اللسانيات الحاسوبية في جامعة “فاس” المغربية، البروفيسور محمد الحناش، مبرّرات الدعوة إلى اعتماد العامية في التعليم، مؤكّدا أنها حجة باطلة علميا وبيداغوجيا، وأوضح الخبير الدولي في مهارات الاتصال في اللغة العربية، أنّ ضعف مستوى التلاميذ لا علاقة له بالفصحى، بل هو مشكل ناجم عن مناهج التدريس في البلاد العربية، والتي انتهت صلاحيتها منذ زمن طويل!
وفي حوار مع جريدة “الشروق”، يعتقد مدير المجلة الدولية “التواصل اللساني”، أنّ العرب لم يستقرّوا على تصور منهجي واضح المعالم بخصوص التعليم، بل “هم قوم تبّع في البيداغوجية لا يبدعون مناهج ولا نظريات”.
تعرف الجزائر في الآونة الأخيرة جدلا واسعا حول إدراج “العامية” في بداية التعليم الابتدائي، هل ترون هذه الفكرة مؤسّسة علميّا وبيداغوجيا؟
أعتقد أن انتشار مثل هذه الدعاوى في هذا الظرف بالذات، أصبح موضة العصر في دنيا الدول التي عانت من ويلات الفرنكفونية، التي ترى أداتها اللغوية تندحر يوما بعد يوم، مثل هذه الدعوة أيضا كانت قد ظهرت في لبنان، وظهر لها خبراء أرادوا تعميم التعليم بالعامية في جميع المراحل، بل إنهم طالبوا بإلغاء العربية الفصحى بوصفها وسيلة لنقل المعارف وحاملة الهوية، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل.
وبالنظر إلى السؤال، أرى أن الدعوة إلى العامية بوصفها محركا للعملية التعليمية في دول المغرب العربي، بدل اعتماد اللغة العربية الفصحى، ينبئ عن أن هناك فشلا ذريعا في فهم العملية التعليمية برمتها، إذ كيف يعقل أن يتم التخلي عن لغة مقننة يستطيع التلميذ استيعاب قواعدها التي انضبطت مع الزمن، وأصبحت تفوق الكثير من لغات العالم، انضباطا في القواعد توليدا وتحليلا، ويلجأ إلى استخدام لغة لا تملك من التقنين الصوري أي نصيب لحد الآن، لتتخذ لغة تنقل بها المعارف التي أصبحت تتعقد يوما بعد يوم.
تطمح جميع الدول إلى تكوين أبنائها ليصبح متعلمها منتجا عالميا ذا تكوين معرفي ومهاري عال، وهذا لا يكون إلا بلغة تختصر المسافات الزمنية في برمجة العقول، وهذه اللغة يجب أن تكون نفسها مبرمجة أو قابلة للبرمجة البيداغوجية، بينما تذهب بعض الدول، مثل بلداننا نحن في شمال إفريقيا إلى الدعوة إلى اعتماد لغة لا نصيب لها في التقنين، سيكون الأمر مقبولا لو كانت لدينا لهجة مقننة، يمكن نقل المعارف عبرها بين دول المعمورة، كما هو شأن أي لغة عالمية، لكن وضع العاميات في وطننا العربي يدعو إلى التشرذم أكثر من الدعوة إلى التوحيد، ما يجعل الدعوى باطلة من الأساس، لا علميا ولا بيداغوجيا.
أتصور أن هذه الانهزامية التي نعيشها في وضع أسس متينة لتعليم لغة الضاد بمعزل عن اللغات الأوروبية، هو الذي يفتح الباب أمام كل مدّع أن يتجاوز هذه اللغة العالمية بكل المقاييس، إنها لغة رياضية بامتياز، ووضعها الدولي يجعل منها لغة قادرة على احتلال الصدارة في لغات التدريس، لا أن تكون في وضع المدافع عن نفسها، لا أمام العامية ولا أمام اللغات الأجنبية التي هاجمتنا في عقر دارنا بأدوات تدعي الحداثة والحضارة.
هل يعلم دعاة العامية أن اعتمادها كوسيلة تعليم سيؤدي إلى ضياع الوقت، كونها لغة غير مقننة نحويا، ما سيجعل التلميذ يقضي وقتا أطول في تعلم العامية التي ما تزال في مستوى الشفوي، ولم تنتقل إلى مستوى الكتابي، علما أن الأمم تتطور معرفيا اعتمادا على ما تكتبه، لا على ما تتفوه به، لأن هذا الأخير معرض للنسيان، مما لا يؤهله لضمان استمرارية نقل المعارف.
لكن وزارة التربية في الجزائر تزعم أن التلاميذ يتعرضون لـ”صدمة نفسية” عند التحاقهم بالمدرسة، نتيجة استعمال اللغة الفصحى، هل ترى هذا الطرح مبرّرا منهجيا؟
الصدمة النفسية الحقيقية هي التي سيعاني منها الطفل، عندما يريد تدوين معلوماته ليرجع إليها لاحقا، فيعوزه الحرف والمفردة والجملة، لأن هذه الوسيلة التي ستعتمد في نقل المعارف غير منمطة، وتفتقر إلى أبسط الطرق في الضبط الكتابي والقرائي وهلم جرا، اللهم إذا كان الهدف من هذه الدعوى العودة إلى الثقافة الشفوية والتخلي نهائيا عن الثقافة المكتوبة التي طورتها البشرية إلى أن أصبحت رقمية بامتياز.
مما يضعف هذه الحجة كونها تفتقر إلى البرهان العلمي التربوي الصحيح، خلافا لاعتماد العربية الفصحى التي تقوم على قواعد مضبوطة ومنسجمة تماما مع النظام اللساني الكلي، الذي تقوم عليه كفاية الطفل أينما وجد في هذا العالم الواسع.
ولنتأمل الزمن الذي قضاه أسلافنا في بناء صرح العربية إلى أن أصبحت منمطة، بل مبرمجة وذات نظام رياضي، لو تأملناه جيدا سنجده يواكب التطور المعرفي الذي يتحصل عليه التلميذ في دروس الرياضيات والعلوم على اختلاف أصنافها، فهل نحن مستعدون لضياع الوقت نفسه الذي قضاه السلف في صياغة قواعد لغة الضاد حتى تتأهل للتعليم؟ الجواب واضح.
هم يطالبون بالحفاظ على “الرصيد الاجتماعي للغة الطفل” حتى يتدرّج في تعلّم العربية، هل هي فعلا مرحلة ضرورية لاكتساب اللغة الجديدة؟
الرصيد الاجتماعي لا علاقة له علميا وتربويا بلغة الطفل، هذا الأخير يراكم الخبرة الاجتماعية بعيدا عن اللغة، وعلى كل حال ليست العامية هي التي سيخزن بها تجاربه الاجتماعية، لأنها ليست قادرة على الاسترجاع المعرفي بطريقة مقننة، إذ ليس الهدف من التراكم المجتمعي هو تخزين البيانات عن المجتمع، بل الأهم من ذلك هو استرجاعها من أجل توظيفها في التطور المجتمعي الذي يقبل عليه الطفل في مراحل نموه وتطوره المعرفي.
علميا، تخزن اللغة في كفاية الطفل ابتداء من مرحلة متقدمة من العمر، وبعضهم يقول إن ذلك يبدأ قبل أن يخرج من رحم أمه، لكن الطفل لا يخزن أي لغة محددة في كفايته، إنه يخزن القواعد الكلية التي تشترك فيها جميع لغات العالم، وهي القواعد التي تترجم إلى أنحاء عملية يتعلم بها الناس المعارف المتعلقة بجميع المجالات، العلمي منها والإنساني وغيره، إذن لا علاقة للعامية بشكل خاص بتراكم التجارب الاجتماعية، لسبب بسيط، هو أنها ليست لها أنحاء عملية قابلة للضبط توليدا وتحليلا، ما يجعلها وسيلة غير مقننة، وبالتالي ستعرقل العملية التعليمية بدل أن تطورها.
أكثر من ذلك، يدّعي القائمون على قطاع التعليم أن اعتماد العامية سوف يسهّل على التلاميذ اكتساب مهارات اللغة العربية، هل هذا صحيح؟
كيف سيمكن لوسيلة تعليمية غير مقننة أن تيسر اكتساب مهارات لغة مقننة؟ العكس، ربما سيكون صحيحا في بعض الحالات النادرة، لكن غير العربية، أما أن تتولى العامية تيسير مهارات لغة قائمة ولها من القوة أن أصبحت من أكثر لغات العالم استجابة للرقمنة، فهذا أمر في غاية الغرابة.
المدافعون عن خيار “العامية” في المدرسة، يتحجّجون أيضا بضعف مستوى التلاميذ في اللغة العربية، هل هذا يعود إلى نوع اللغة أم إلى مناهج تعليمها؟
هذه مصادرة مغلوطة، لا علاقة لضعف مستوى التلاميذ في اللغة العربية الفصحى باللغة نفسها، فالفصحى لا تتحمل أي مسؤولية في هذا الأمر، بل إن التخلف الذي يعرفه إتقان العربية يعود بالأساس إلى طريقة تعليمنا لها، وإلا لكان تعلم اللغات الأجنبية أولى بهذه الصعوبات، لأنها لغات مختلفة نظاما على جميع الصعد عن اللغة العربية الفصحى، ومع ذلك يتعلمها التلاميذ بكل يسر، ويتقنونها في زمن قياسي، وذلك راجع إلى الديداكتيك التعليمي (فنّ التدريس) المطبق في تعليمها، بل إن التلاميذ يمكنهم أن يتلقوا بها معارف معقدة في مرحلة مبكرة من التعليم، والسبب يعود أساسا إلى طريقة تلقينها، خلافا للغة العربية التي ما زالت تدرس بطرق كربونية، أي بطرق مستنسخة حرفيا من تراث تعليمي انتهى زمنه الافتراضي، وأصبح لزاما على معلميها أن يبدعوا طرقا جديدة في تعليمها، وإلا سيأتي زمن سنضطر فيه، أمام التطورات المنهجية لتعليم اللغات العالمية، إلى المطالبة بإحياء اللغة الفصحى، وليس فقط استبدال العامية بها في التدريس، ويبدو أننا في حاجة إلى وقفة تأمل بيداغوجي أمام هذا الاندحار الذي أصبحت تعرفه مناهج تعليم اللغة العربية، ما شجع جهات كثيرة على التجرؤ للمطالبة باعتماد العاميات في التدريس.
ما هي البدائل المنهجية لتحسين مستوى اللغة العربية لدى الناشئة وتجاوز دعاوى العامية في المدرسة؟
لا توجد وصفة جاهزة نجيب بها عن هذا السؤال، فالمناهج التعليمية كثيرة، تتأقلم مع كل لغة على حدة، وعلينا نحن العرب أن نختار الإطار النظري الذي سنعلم به لغتنا، فقد نجحت دول أوروبا في وضع الإطار الأوروبي المشترك لتعليم اللغات وتقييمها، ونجحت في ذلك، ونحن منذ أن بدأنا نتحدث عن تعليم العربية ونحن نتحدث عن ديداكتيك تعليم العربية، ولم نصل لحد الساعة إلى الاستقرار على تصور منهجي واضح المعالم، فقد جربنا جميع المناهج ولم نوطن عندنا المنهج الذي سنتبناه، انتقلنا من الإطار التقليدي، وعانقنا بيداغوجيا الأهداف، ولما تبين أنها لا تربط التعليم بسوق الشغل انتقلنا إلى بيداغوجيا الكفايات، وأضفنا إليها بيداغوجيا الإدماج لتقوية عضدها في التعليم، وها نحن أولاء نستعد للنزول من مركب هذه البيداغوجيات كلها لنعانق المجهول. نحن لسنا مبدعي مناهج ونظريات، بقدر ما نحن قوم تبع من الناحية البيداغوجية، كلما ظهرت موجة جديدة في الغرب، نصفق لها ونستوردها كما نستورد البضائع، دون التساؤل عن ملاءمتها للغتنا التي لها ماض عريق استقرت فيه على نمط رياضي ـ حاسوبي مختلف عن بقية لغات العالم. وأتعجب أن تغيب عن باحثينا هذه الخصوصية اللسانية للغة الضاد التي أصبحت مصدرا لبناء أنحاء اللغات الأخرى بدل أن نكون مجرد مقلدين لغيرنا.
أتصور أنه في مقدورنا أن نضع إطارا منهجيا ملائما للغة الضاد، يمنع عنها هذا الهجوم المباغت الذي نسمع عنه بين الفينة والأخرى، والذي يدل في عمقه على حقد دفين تكنه بعض الطبقات السياسية للّغة ومنه إلى متكلميها. وأعتقد أنّ الحل ممكن في إطار هندسة اللغات الطبيعية التي أثبتت نجاعتها في بناء أنحاء صورية قادرة على دخول معترك التعليم في كافة مستوياته، وهوما تفتقر إليه العاميات العربية غير الموحدة تركيبيا وصواتيا وصرفيا، إلخ.
ما هي مخاطر التخلّي عن “العربية الفصحى” في التعليم الابتدائي لصالح “العامية”، على مستوى البيداغوجيا والهوية بشكل عام؟
ليست مجرد مخاطر، بل هو تدمير شامل للهوية العربية الإسلامية التي ترتكز عليها شعوب المنطقة، ما معنى أن تتخلى عن لغتك التي تجمعك بشعوب العالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، والانزواء وراء لهجة محلية غير قادرة على مساعدتك على اجتياز حدود بلدك، كيف سيتعامل التلميذ مع نظرائه في المنطقة، قبل أن يتعامل مع زملائه في وطننا العربي الكبير، ما الوسيلة اللغوية التي سيمتلك بها المعارف العلمية الجديدة التي تتطور بدون توقف، والتي لا يوجد أي مرجع علمي محرر بها في بلده قبل العالم؟ بل كيف سيفهم دروس الفيزياء والحاسوب والرياضيات في المراحل التعليمية اللاحقة، إن هو تعلم كل شيء في صغره بعاميته المقزمة جغرافيا؟ اللغة عملة الوطن وهي رمز سيادته، إن فرط فيها الوطن سيكون كمن فرط في كيانه حاضرا ومستقبلا. اللغة تبني الشعوب عن طريق نقل المعرفة، فإن هي خربت فاقرأ على الشعوب السلام، وأمامنا مثال إسرائيل التي أحيت لغتها من رماد، وها هي اليوم تحتل الصدارة المعرفية بين الأمم، بينما نحن نحاول قتل لغتنا رديف هويتنا لفائدة جهات تحاول ضربنا في الصميم بخلق هذه المشاكل المصطنعة.
لذا لا أعتقد أن مسعى التعليم بالعامية سيكون له مصير إيجابي في الجزائر أو في غيرها من البلدان العربية التي ظهرت فيها مثل هذه البدع التربوية لفائدة الأسياد.
أظنّ أنّ هذا النقاش مطروح في المغرب الشقيق أيضا، ما هي برأيكم خلفياته السياسية والسوسيولوجية في المنطقة المغاربية عموما؟
نعم، لقد طرح بعض دعاة الفرنكفونية الموضوع نفسه في المغرب، لكن دعواهم باءت بالفشل، فتم تجاهلها كليا في التقرير الاستراتيجي: 2015 ـ 2030 الذي أصدره المجلس الأعلى للتعليم، الذي صدر رسميا قبل شهر ونيف من اليوم، ويمكن الاطلاع عليه في موقع هذا المجلس، فتم تكريس اللغة العربية الفصحى، إلى جانب أكثر من لغة عالمية، طبعا في مقدمتها الفرنسية لأنها اللغة التي يملك المغرب أطرها إلى حد اليوم، على أمل أن يتم تكوين أطر باللغة الإنجليزية في المستقبل القريب. الشعب المغربي يعارض تماما اعتماد الدارجة المغربية في التدريس لأسباب بيداغوجية وعلمية أيضا، لأن العربية الفصحى هي اللغة التي تملك مرجعيات قواعدية يمكن اعتمادها في تدريس المواد العلمية والأدبية في مرحلة التعليم الابتدائي، أما عندما يصل التلميذ إلى مرحلة التعليم المتوسط أو الثانوي فسيكون قد أصبح متمكنا من العربية ويمكنه حينئذ أن يتلقى المعارف بلغات أخرى، على أن تستمر العربية الفصحى في أداء دورها الوظيفي إلى نهاية التعليم الثانوي.
تجب الإشارة إلى أن الدعوة إلى العامية في المغرب لم تكن فقط تقتصر على تدريس العامية، بل كانت تهدف، وهذا هو الأخطر، إلى تلقين المعارف العلمية بها، وبذلك يتم تناسي العربية الفصحى نهائيا.