-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أبعاد اجتماعية وسياسية في فريضة الزكاة (1)

سلطان بركاني
  • 2373
  • 0
أبعاد اجتماعية وسياسية في فريضة الزكاة (1)
ح.م

لقد بين الحق سبحانه وتعالى البعد الاجتماعي والسياسي الذي من أجله فرض الزكاة وجعلها عبادة مالية، وذلك في قوله تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)) (التوبة، 104)، والتطهير والتزكية لا يقتصران على الشخص الغني والفقير، بل يشملان كل مناحي الحياة، التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فالزكاة  تربي نفس المسلم على البذل، وتبعدها عن التعلق بالمال، كما قال تعالى: ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)).

الزّكاة تطهر المجتمع أيضا من شتى الأمراض التي تذهب بتماسكه وتخل بتلاحمه، وتزيل الظلم وتوفر الانسجام والتعاون، وهي أيضا تطهير للمال من كل ما من شأنه أن يعرقل نموه، أو يجعله عاجزا عن توفير الحاجات الضرورية للإنسان، وهنا تأخذ الزكاة بعدها ومقصدها العام في التنظيم المجتمعي، في أنها ليست قسطا من المال يصرف للفقير ومن به حاجة يسد به رمقه، بل هي ركيزة من الركائز تبني عليها الأسس الاجتماعية، وتحقق بها الأمة وجودها بين الأمم.

البعد النّفسيّ والتربويّ للزّكاة

الزكاة  تطهر النفس من الشح والبخل، وشح الأغنياء وبخلهم بقسط مما في أيديهم على الفقراء والمحتاجين كان ولا يزال مقويا لظاهرة الفقر فيهم ومنميا لها، من أجل ذلك فرض الله عز وجل الزكاة وجعلها حقا في مال الغني تؤخذ منه كرها إن لم يدفعها طوعا، والقرآن حين تحدث عن البخل اعتبره داء يصاب به المجتمع فيشل حركته، قال سبحانه: «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشبة الإنفاق، وكان الإنسان قتورا» (سورة الإسراء، الآية: 100)، وقال صلى الله عليه وسلم محذرا أمته من الشح: “إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا» (رواه مسلم)، وقال أيضا: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىمتبع، وإعجاب المرء بنفسه» (صحيح البخاري).

 فإذا كان الفقر طريق الفجور والموبقات وبه هلاك الأمم والجماعات فإن الشح لا يقل عنه خطورة وما اجتمعا في أمة إلا كان هلاكها بهما، لذلك كان من الضروري كلما ذكر الفقر أن يذكر الشح والبخل إلى جانبه، والإسلام لا يحارب الفقر فقط بل يحارب كل ما من شأنه أن يزيل صفة الإنسانية عنالمسلم، أو يزرع في نفسه حب الأنانية. كالبخل فإنه شر ما بعده شر قالعليه السلام: «وأي داء أدوى من البخل» وقال سبحانه: «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم» (سورة البقرة، الآية: 267).

وبسبب البخل منع الحقوق وهنا هو الأخطر “فإن نفس البخيل لما جلبت على حبالمال واستعصى عليها تركه فلا تذعن معه لحق، ولا تجيب إلى إنصاف، بل تكون طائعة لكل فحشاء وفسق”، وقد عبر الله عن ذلك بقوله: «الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء» وقال تعالى: «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، التهلكة الفردية بالعذاب في الآخرة، والتهلكة الجماعية بما يشيعه عدم الإنفاق في المجتمع من تفاوت وظلم وفتن وأحقاد وضعف وعدم الاستقرار السياسي.
إنما يقوض المجتمع ويذهب بتماسك أفراده أن يشيع فيهم روح البخل فيقول كل عضو فيه “نفسي، نفسي” ولا يقول “أمتي، أمتي” وهذا ما عملت الزكاة بمبادئها العادلة ومقاصدها السامية على محوه والقضاء عليه.

والزكاة كما تحقق معنى التطهير للنفس، تحقق معنى التحرير لها من ذلال تعلق بالمال والخضوع له، وقد جاء في الأثر: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم»، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم ولا أراهما إلا مهلكا كم»، انطلاقا من هذا كله حارب الإسلام الشح، ودعا المسلم إلى التجرد من حبال مال، وما ذلك إلا لضبط السلطة القائمة في طبيعة التملك ليقيم التعاون الإنساني على أساسه العملي، وليقيم محاجزه بين المصالح الاقتصادية الطاغية حتى لا تأكل مصلحة مصلحة فتهلك، بها ويوجب أن تلد مصلحة مصلحة لتحيا بها.

الزكاة وتزكية النفس بالبذل والإنفاق

كما أن الزكاة تطهير للنفس من البخل والشح فهي تزكية لها بالإنفاق والبذل، ولقد دعا القرآن الكريم في آيات شتى إلى الإنفاق، قال سبحانه وتعالى: «وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» (سورة الحديد، الآية: 7)؛ فالمال مال الله، وإنفاق الإنسان منه الذي استخلفه لتحرر شعوري من ربقة الحرص والشح. وضمانات اجتماعية لتكافل الأمة كلها وتعاونها، وبهذا تكون الزكاة ذات دلالات شتى في عالم الضمير وعالم الواقع، وهذا يقرر أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأن الزائفة هي في الأخذدون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق. فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادها حتى إذ نضجت كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهب حلاوتها لغيرها، فإذا هي أمسكت الحلاوة على نفسها لم يكن إلا هذه الحلاوة بعينها سبب في عفنها وفسادها من بعد.

في عالمنا المادي يسير كل أمر بالسرعة والفاعلية التي تتيحها الوسائل المادية، فالاقتصاد يعني تجميع المال، والناس فريقان: فريق يجمعه بالشح المضاعف، شح انتظار الفائدة، وفريق يجمعه بالغصب والاحتيال، وفي الطريق الإسلامي يكون برهان الصدق وعلامة الإيمان البذل، قال عليه السلام: “الصدقة برهان”، ونهوض الإسلام إلى أن يبلغ غايته في حمل الرسالة يريد تربية النفوس على البذل والعطاء حتى تتخلق بأخلاق الله، فكلما اعتاد الإنسان البذل والعطاء ارتقى من حضيض الشح الإنساني إلى أفق الكمال الرباني، فإن من صفات الحق سبحانه إفاضة الخير والرحمة على عباده دون نفع يعود عليه. والسعي في تحصيل هذه الصفات بقدر الطاقة البشرية تخلق بأخلاق الله وتخلق بأخلاق النبي عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم: “ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم”.

وفي البذل وإيتاء الزكاة شكر لنعمة الله عز وجل، يقول الغزالي: “إن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق، وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه”. قال عليه السلام: “الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر”، والزكاة بكونها شكرا لنعمة الله كانت نصف الإيمان، وإيتاء الزكاة فوق أنها شكر لله هي ابتلاء أيضا، قال تعالى: «وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، أتصبرون وكان ربك بصيرا» (سورة الفرقان، الآية: 20).

إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله خالصا مجردا، ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه جزاء الإحسان لعباده، ويرتفع ويتطهر ويزكى بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل.

والمراد بالإنفاق أن يبذل المرء ضمن حدود وسائله الاقتصادية لا أن تبذر أمواله ليصبح عالة على غيره، ولهذا كانت الزكاة هي أخذ قسط من المال للفقير على وجه لا يصير به الغني فقيرا، قال تعالى: «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو».

يتبع بإذن الله…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!