-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ابن باديس.. إمامُ الجزائر في كل عصورها

ابن باديس.. إمامُ الجزائر في كل عصورها
ح.م
العلامة عبد الحميد بن باديس

سيظلُّ في اعتقادنا الخاص على الأقلّ أنَّ الأمير عبد القادر بن محيي الدين والإمام عبد الحميد بن باديس هما أعظم شخصيتين جزائريتين خلال القرنين الماضيين، لما كان لهما من دور حاسم في إعادة تأسيس الدولة الجزائرية وإحياء كيانها الحضاري من تحت ركام الاستيطان الفرنسي.

لقد رفع الأمير السلاح في وجه الاستعمار البغيض، حاملا لواء الجهاد المقدّس، ثم سارت على دربه مقاوماتٌ شعبية باسلة في كل ربوع الجزائر، لم تنقطع تقريبًا طيلة القرن التاسع عشر، حتّى استقرّ الأمر لاحقا للاحتلال، واطمأنّ إلى موت الأمة الجزائرية وإدماجها نهائيا في الكيان الفرنسي.

ثمّ تشاء أقدار الله أن يبرز مع مئوية الاستعمار إمامٌ استثنائي، مجسدا عمليّا للأثر الصحيح ” إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”، فقد انبرى لإحيائها من جديد، نافخا فيها من روح العقيدة والقرآن والسنة وأنوار العلم والعقل.

لقد أدرك الشيخ ابن باديس بعد مرور قرن كامل على تنفيذ المخطط الاستيطاني، بما تركه من آثار تدميرية عميقة، أنَّ الأولوية في التهيئة للتحرير الوطني تكمن في إعادة صياغة الإنسان الجزائري وجدانيا وتربويا وثقافيا، ليستعيد شعوره بالانتماء للذات والتميز عن المستعمر.

لذلك أعلى إمامُ الجزائر صرح مدرسة إصلاحية متفرِّدة في رؤيتها ومنهجها ومشروعها وبرنامجها الميداني المتشابك، ضمن سياق تحديات عصره، لما تمتّع به من علم غزير وأفُق تفكير ووعي كبير وتضحية منقطعة النظير، وستبقى أسس المدرسة الباديسية صالحة للاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية قاطبة.

لقد اجتهد رائد النهضة في توظيف كل أدوات زمانه لتحقيق مشروعه الإحيائي، بتعبئة شعبية وبذل كريم في سبيل الدين والوطن، من تشييد المساجد والمدارس الحرة وإطلاق الجمعيات والنوادي الثقافية والفنية والرياضية والأدبية واستغلال الصحافة والجرائد والرحلات، ضمن خطة متكاملة الأهداف والأبعاد والوسائل، تعكس الفكر الباديسي الشمولي الأصيل والمنفتح على روح العصر.

إنّ من يدرس نشاط الإمام بن باديس وآثارَه المكتوبة، يدرك دون عناء عبقرية العقل الباديسي العملية وأفقه المعرفي الواسع، ناهيك عن تلك الهمة التي لا يهبها المولى إلا لقلة من عباده المصطفين للقيادة؛ فقد تنوعت عطاءاته في كل الميادين وغطّت معارفه كل العلوم الشرعية وما يتصل بها، مثلما تفاعل مع قضايا عصره العربي والإسلامي وحتى الإنساني.

من المعلوم أنّ ابن باديس ركَّز جهده على ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة، مبرزا بوضوح موقفه من علم الكلام، ومحاربًا بلا هوادة للإلحاد والتبشير والبدع والمنكرات العامة والطرق الصوفية المنحرفة.

وفي تراثه الزاخر نقف على نشره للفقه المالكي دون تعصّب، بل تفقّه في ضوء الكتاب والسنة، واهتمام بشرح الحديث الشريف، لفظًا وتراكيب ومعانيَ، لاستنباط الأحكام والفوائد بمراعاة الملابسات الزمانية والمكانية، بعيدا عن القراءات الحرْفية الجامدة.

كما اعتنى بالقرآن الكريم تعليمًا وتفسيرا وتدريسًا، ناقدا مناهجه القديمة، ليؤسس لمدرسته نهجا سلفيّا علميّا استدلاليّا في فهم النص القرآني وإنزاله على الواقع.

وفي غضون ذلك، كان الهمّ مُنصبّا على تثبيت العربية، لغة وثقافة وانتماء، في أوصال المجتمع الجزائري الذي نالت من هويته مخططات الاستدمار التغريبية، مع انفتاح الإمام على اللغات والمرأة والشباب، جاعلاً من قلمه السيّال بمبانيه البديعة ومعانيه العميقة سلاحًا ناعمًا، لنسف حصون الفكرة الاستعمارية، فكانت الصحافة الحرّة منبره الهادئ والهادر في آن واحد.

إنّ كل تلك المناشط لم تكن في الخطة الباديسية سوى وسائل ومراحل إجبارية لإحياء الإنسان الجزائري، تمهيدا لخوض معركة الحرية الكبرى، فلم تكن قطّ معارفه تلقينية تقليدية، بل اجتهادية مقاصدية، يروم من خلالها إحياء القلوب وإيقاظ الضمائر وإنارة العقول، لتكون في مستوى تحدّي المواجهة الوجودية.

لذلك لم تقتصر كتابات ابن باديس على المعارف الدينية، بل إنه كرّس في شعره ونثره الفكر التحرري الثوري، بإثارة الحريات السياسية وحرية الرأي والتعبير والتعددية والتعليم، كما تفاعل في مقالاته مع أحداث أمته، من ثورة الريف المغربي وسوريا إلى مقاومة عمر المختار في ليبيا، مثلما نافح عن وحدة الشمال الإفريقي وفلسطين والمسلمين في روسيا، ونظّر لقيام الدولة العربية الموحّدة، وضبط عوامل قيام الدول وبناء الحضارة، ومعاول ضعفها وانهيارها.

ذلكم هو ابن باديس، الإمام والفكرة والمشروع والطموح الوطني الحضاري، الرجل الذي سرّح زوجته إلى أهلها ولم يوقف درسه بوفاة ابنه الوحيد ولا شقيقه، وطلّق متاع الدنيا من نعيم أسرته العريقة، مجسدا التضحية العامة ونكران الذات في أسمى تجلياتها، حتى كتب الله علي يديه حياة الأمة الجزائرية من جديد، ثم رحل دون أن يتجاوز نصف قرن إلا ببضعة أشهر، مخلفا وراءه جيلا طلائعيا من العلماء والشعراء والرجال والثوار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!