-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأزمة في فرنسا يا ماكرون!

الأزمة في فرنسا يا ماكرون!
ح.م

ما نطق به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حق الإسلام ليس سوى تنفيسٍ عن الذات الفرنسية المأزومة في مواجهة الآخر حضاريّا وفكريّا وثقافيّا، ومحاولة للتسلية النفسية والتغطية عن العجز الداخلي في التصدي للأزمات الفعلية التي قد تحدِّد في القرن الجاري مصير المدنية الغربية كاملة وليس فرنسا لوحدها.

كان يمكن تجاوز كلام ماكرون عن تنظيمات دعوية إسلامية تنشط فوق الأراضي الفرنسية، مثل الوهابية والسلفية والإخوان المسلمين، ممن يتهمها بتكريس “الانعزالية” أو “الانفصالية”، المولّدة لمنهج التشدد والعنف، حسب زعمه.

أمّا أن يتعمد الرجل بسوء نيّة وجهل مركّب الإساءة إلى الدين نفسه، بقوله “إن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم”، فهو خلطٌ مقصود بخبث للنيل من الإسلام كدين وتشويه نقاوته، بتحميله ممارسات أفراد هو أكبر المتضررين في الواقع، معنويّا وماديّا وجغرافيّا، من أعمالهم الشنيعة.

الإسلام لا يعيش أبدا أزمة يا ماكرون، بل هو في ازدهار واعد، وليس هو الأزمة لا في فرنسا ولا خارجها، وسنعرض لك الآن تجليات الأزمة الحقيقية في بلادك والقارة العجوز.

إن ما يصفه مانويل بمحاربة توظيف الدين للتشكيك في “قيم الجمهورية” هو استهداف صريح للجالية المسلمة على وجه الخصوص، مثلما هو تعبيرٌ عن عمق الأزمة العلمانية في مهد الثورة المنحرفة التي تدثرت تاريخيا بثلاثية: الأخوَّة، الحرية، والمساواة، في وقت اقترفت أفظع الجرائم الإنسانيّة في حق الشعوب.

ماذا يعني إقرار مجلس الشيوخ الفرنسي لحظر الحجاب، وتشبيهات بوريس جونسون للمنقبات بـ”لصوص البنوك” و”صناديق البريد”، غير شرْعَنة العنصرية باسم العلمانيّة المتحيزة ضد الإسلام؟

هذا التحريض القانوني هو الذي جعل فرنسا تسجل أكثر من 40% من المسلمين كضحايا لسلوكات عنصرية بسبب ديانتهم، خلال السنوات الخمس الأخيرة، بحسب استطلاع لمعهد إيفوب.

وهي العنصرية نفسها التي جعلت اللاعب الدولي الفرنسي السابق باتريس إيفرا ينفجر غاضبا بِسبب “إبعاد السود من حضور الحفلات أو تصدّر الواجهة”، مثلما حدث له مؤخرا في حضرة الرئيس ماكرون.

هذه النزعة ليست غريبة على الفرنسيين المتطرفين الذين ينهلون من تراث مونتسكيو الذي حض على استعباد السود، لأنهم “فُطَّس الأنوف ومخلوقاتٌ دونية واستعبادها حقٌّ إلهي”، ومع ذلك تجد من المستلبين من يعتبر باريس قبلة التنوير!

الأزمة الفعلية في فرنسا يا ماكرون هي العجز عن تطويق المدِّ الإسلامي المتنامي وسط الأوروبيين، الذين يعتنقون يوميّا دين الحق فرارا من الفراغ الروحي وجحيم الحداثة المادية، مقابل الخروج أفواجا من المسيحية المحرّفة وتحويل الكنائس إلى مراقص وملاهي، حتّى إنّ خبراءكم يدقون ناقوس الخطر من تحوّل أوروبا ديمغرافيّا إلى كتلة مسلمة بحلول 2050، في حال تواصل تدفق الهجرة.

الأزمة الفعلية في فرنسا هي فشلكم الذريع في رهان إدماج الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين من أصول إسلامية وعربية وإفريقية، ما أدّى مرارا إلى وقوع أعمال عنف ومظاهرات في مناطق الضواحي وفي قلب الحواضر الكبرى.

بل إن المعضلة العويصة جعلت فرنسا المنبع الأول ضمن قائمة الدول الأوروبية الأكثر تصديرا للمقاتلين الأجانب في صفوف “داعش” بأكثر من 1200 مقاتل، وهي الأزمة التي تؤرّقكم اليوم في التعامل مع عودة هؤلاء، حتّى إن فلورنس بارلي، وزيرة دفاعكم عبَّرت عن حلمكم بالقول “إذا قُضي على الجهاديين في هذه المعارك فإن هذا أفضل”.

الأزمة الفعلية يا ماكرون هي أزمة الديمقراطية الغربية المهدَّدة بصعود التيارات الشعبوية والقومية، ولا نعتقد أنّ وصولكم المفاجئ إلى قصر الإليزي كان سيحدث خارج الاستقطاب مع اليمين المتطرِّف، يوم ادّعيتم تمثيلكم للوسط بمغازلة الجاليات المسلمة والآن تنقلبون عليها.

الأزمة الفعلية يا ماكرون هي تآكل الفرنكوفونية، التي هي في طريقها نحو التلاشي، أمام موجة العولمة الأنجلوساكسونيّة، ما أرغمكم أخيرا -بعد عقود من الممانعة اللغوية والثقافية- على تبنّي وتشجيع تعليم طلابكم للإنجليزية، فأبْشر قريبًا بنهاية الفرنسية في مستعمراتكم القديمة.
وبمقتضى ذلك، فإنّ الأزمة الأخرى هي تراجع نفوذ باريس في إفريقيا وحوض المتوسط تدريجيّا وسريعًا، برغم كل المخططات الجهنميّة للاستحواذ على خيراتها وأنظمتها السياسيّة، أمام العملاق الصيني الزاحف على العالم، وبصعود القوة الإقليمية الإسلامية بزعامة تركيا، والتي تتوسَّع يوما بعد يوم في دفعكم نحو الخلف، لأنّ التاريخ الحضاري بدأ الاستدارة في الاتجاه المعاكس.

الأزمة المزمنة لكم يا ماكرون هي العقدة من الماضي الاستعماري الشنيع، فقد مثلت بلادُك أبشع استعمار استيطاني في العصر الحديث، لا تزال البشرية الحرّة تخجل حتى الآن من جرائمه التي فاقت كل حدود الوحشية في حق الإنسان والحضارة والطبيعة، وتأبى طيَّ صفحته دون الاعتراف والاعتذار والتعويض، بينما تدسّون رؤوسكم مثل النعامة في رمل النفايات النووية بكل وقاحة، وتقفون تائهين بين تأنيب الضمير الآدمي وحسابات السياسة غير الأخلاقيّة.

سيادة الرئيس… يوم تجدون مخارج آمنة لأزماتكم المفصليّة وتتطهّرون من أدران التاريخ قد يسمع لكم الآخرون حديثكم عن الإسلام المنزّه، أما الآن فلن يُنقذكم من السقوط المحتوم تصديرُ مشاكلكم وتعليق إخفاقاتكم على شمّاعة الإرهاب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!