-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأمة الإسلامية اليوم.. تنتج فقها أم تستنسخ تراثا؟

التهامي مجوري
  • 768
  • 0
الأمة الإسلامية اليوم.. تنتج فقها أم تستنسخ تراثا؟

الفقه

الفرق بين إنتاج الفقه واستنساخ التراث، هو أن الفقه علم بالأحكام المستخرجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، استجابة لحاجة قائمة متعلقة بحياة الناس، بينما استنساخ التراث هو فقه أيضا ولكنه ربما كان فهما لنصوص الوحي صالحا في مرحلة زمنية ما، ولكنه قد لا يستجيب لحاجة واقع آخر، وكلاهما إنتاج بشري وليس وحيا من عند الله؛ لأنه يعبر عن فهم لمراد الشارع الحكيم، قد يصيب وقد يخطئ، وربما يصلح لحالة ولا يصلح لآخر، أو يصلح لزمن ولا يصلح لزمن آخر، وأكثر ما يظهر هذا النوع من الفقه في الفتاوى التي قد تكون معالجة لقضية خاصة غير قابلة للتعميم.

إن إنتاج الفقه يعني لإنضباط بمقررات الوحي ومقاصد الشارع الحكيم، والإبداع والإضافة والتجديد والمراجعة وفق مقتضيات وتحولات الواقع وجديده، وذلك قد يأتي بشيء غير مسبوق، لا سيما وأن الفقه باعتباره تنزيلا لنصوص الوحي على الواقع الذي يعيشه الناس استجابة لحاجة إنسانية ضرورية، أما التراث فهو ذلك الفقه المنتج في عصر من العصور، كان صالحا في حينه ولكن لم يعد مقبولا في مرحلة من المراحل اللاحقة في تاريخ الأمة.

وما يذاع اليوم على الناس وينشر بينهم من أقوال وآراء فقهية، هل هي من الفقه الذي يتطلع إليه الناس لسد حاجاتهم منه في واقعهم؟ أم هي من التراث المستنسخ، بسبب العجز أو الخوف الذي أصاب نخبنا وعلماءنا منذ قرون؟ وقد لا يجد المؤمن فيها ضالته.

ولا أستبق الأحداث للإجابة عن هذا السؤال؛ لأن الأهم ليس الإجابة بقدر ما هو بحث في المبررات التي كانت سببا في طرح هذا السؤال.

إن علوم الوحي يفصلنا عن تاريخ نشأتها واكتمالها على الصورة التي نَدْرُسُها الآن في الجامعات والمدارس ونُدرِّسُها، أكثر من عشرة قرون، وفي المقابل منذ أقل من ثلاثة قرون فقط نشأت العلوم الإنسانية بكل فروعها، بحيث لم يعد من السهل على الإنسان كائن من كان أن يتكلم في شأن من شؤون الإنسان ويتجاهل علم النفس، وعلم الإجتماع، والعلوم السياسية، والعلوم الإقتصادية…إلخ، ولو كان ذلك باسم علوم الشرع وقضايا الفقه.

سألت صديقي وأحسبه من فقهاء الأمة الضالعين في الققه وأصوله: ما موقع الفقيه في منظومة خبراء العلوم الإنسانية اليوم؟ فقال لي هو الأصل؛ بل هو الأساس!! فلم أعقب على صديقي بالقدر الكافي، ولكنني قلت له ببساطة، إن مفهوم قوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل 43]، لا يفيد هذا وإنما يفيد أن كل تخصص له خبراؤه وأهل ذكره، ولا يجوز للفقيه أن يبت في أمر إلا بالعودة إليهم، بحيث لا يبقى للفقيه إلا إطاره وعلوِّ السلطة المرجعية التي يمثلها في تخصصه؛ لأنه من حيث المبدأ مبلغ عن الله أحكامه، وعليه في تقديري، فإن الفقيه اليوم لا يستطيع الخوض في الكثير من المسائل وإدراكها بدقة إذا لم يرجع لأهل الإختصاص، وكما قال بن نبي رحمه الله عندما تكلم عن الإقتصاد في الأمة الإسلامية في بداية السبعينيات، “نرى المختصين بالاقتصاد، يوجهون العتاب أو اللوم إلى الفقهاء ويرمونهم أحياناً بالجمود. يجب أن ننزه فقهاءنا عن هذا العتاب، ونقول إنه ليس من اختصاصهم أن يدُلُّوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يقدمها أهل الاختصاص، هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية” [المسلم في عالم الإقتضاد، من المقدمة]، وفق المنظور الشرعي المنضبط بأليات العصر بطبيعة الحال.

فلم أطل الحديث مع صديقي كما ذكرت، ولكن اكتفيت بتلك التعليقات الخفيفة، ثم عدت لنفسي لأبحث عن إجابة لهذا السؤال الهام.

وهذا السؤال ليس جديدا وإنما هو مطروح منذ قرون، بسبب ما أصيب به الفكر في حياة المسلمين من الركود والقصور، وانتقال مركز الثقل إلى العالم الجديد وثوراته الصناعية والعلمية، فانتقلت قيادة العالم إلى عالم آخر مختلف في مرجعياته ومبادئه وأصوله وغاياته، فوقعت الإشكالات الكثيرة، ومن يستقرئ التاريخ يلاحظ الهوة الكبيرة التي بين واقع الناس وموقف المسلمين منه.

ففي القرن الثامن عشر فقط، كان المسلمون يحرّمون طبع المصحف في المطابع الصناعية، وعندما طلب من مشايخ الأزهر في فترة ما تحضير دستور إسلامي اختلفوا في وضعه على أي مذهب من المذاهب المشهورة بين المسلمين؟ كما أشار إلى ذلك القاضي عبد القادر عودة رحمه الله في كتابه “الاسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه”، وإلى عهد قريب كان الناس يرفضون فكرة معرفة جنس الجنين في الشهور الأولى عبر “الإكوغرافي”، على اعتبار أن ذلك من اختصاص الله سبحانه لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان 34].

وفي المجال السياسي لا يزال فقهاؤنا يدافعون عن سلطة المتغلب إلى اليوم، أي الحاكم الذي وصل السلطة عن طريق الانقلاب، ويعتبرون ذلك شرعيا بحكم الغلبة، رغم أن العلوم السياسية تجاوزت هذا بكثير، وبما ييسر على الفقهاء عناء الخوف من بطش السلاطين…، ورغم أن خوف الفتنة هو الدافع للقول بشريعة المتغلب، فإن الفتنة حاصلة بمجرد اللجوء للقوة بدل الشرعية في حسم القضايا السياسية.

والقصور  في تقديري ناتج عن أمرين إثنين:

الأمر الأول: أن أغلب فقهاءنا متخلفون عن الركب في فهم العلوم الإنسانية والإلمام بها، ولا يمكنهم أن يعطونا أحكاما صحيحة إلا بتجاوز هذا التقصير؛ لأن المنظومات العلمية والفكرية التي تحكم العالم اليوم، منظومات مختلفة عن المنظومة الإسلامية، وهي المهيمنة على الحياة كلها، بحيث لا يمكن لفكرة إسلامية ما أن تناقش فضايا العالم والأمة خارج هذه المنظومات، وحتى إذا وجدت بعض الحلول التلفيقية، فهي من حيث المبدأ في الوعاء القائم وربما كان لها لون إسلامي، مثل المصارف الإسلامية التي أنشئت بناء على الفقه الإسلامي وبسعي حثيث من عماء الإسلام، ولكن طبيعة هذه المصارف لم تخرج عن المنظومة اللبيرالية والنظام البنكي الذي وضعت في إطاره هذه الحلول الإسلامية التلفيقية، بحيث لا يوجد فيها من الإسلام إلا العقود التي بين المتعاملين، فقد اجتهد الفقهاء في تخليص هذه العقود بين المتعاملين في هذه المصارف من شبهة الربا وعوضوها بعقود مشروعة، مثل المرابحة والسلم وغيرهما، أما من حيث المبدأ فإن البنوك كلها بنت النظام اللبيرالي الخالي من الخدمة الاجتماعية التي تمثل عنصرا هاما في مقاصد الشرع الإسلامي…، وكذلك النظم السياسية، فجميع كتب الفقه مثلا تتكلم عن اشتراط القرشية في رئاسة الدولة في الفقه السني، والنص على آل البيت أو الولي الفقيه في الفقه الشيعي، بالرغم من أن فكرة الأعراق والأنساب في النظام السياسي لم تعد مطروحة أصلا، إلا في حالات لا علاقة لها بالممارسة السياسية مثل النظام الملكي المنحصر في عائلات معينة لا سلطان لها إلا السلطة الشرفية، كما في بريطانيا واسبانيا والسويد والنرويج…إلخ، ووجود هذا النظام في هذه البلاد كما هو واضح رمزي لا علاقة له بتسيير الدولة ومؤسساتها…إلخ.

لا شك أن هذه المنظومات التي تحكم العالم اليوم، ليس في حسبانها البعد الديني، وهذا يجعلنا نتردد في مصداقية ما تتوصل إليه، ولكن هذا التردد لا ينبغي أن يتحول إلى عائق؛ لأن هذه النظم مبنية في مجملها على العلم وحقائق الوجود، ونتائجها مسلمة عند الجميع، ومن ثم فإن الخوف على الشرع والدين من هذه النظم انتفى؛ لأن العلم لا يمكن أن يضاد الشرع، وإذا كانت مواجهتنا لهذا العلم بمجرد عرض تراثنا الفقهي، فإن ذلك يتحول إلى فتنة للذين آمنوا والذين كفروا على حد سواء. أما الذين آمنوا فيتمردون على فقههم الذي لم يرتق إلى مسايرة العالم، وقد أشار الأخ ابراهيم بوزيداني [جزائري مدرس بالجامعات التركية] إلى أبحاث قام بها طلبته في الجامعة تفيد أن من أسباب الإلحاد في صفوف شباب المسلمين، التناقض الذي يشاهدونه في سلوك المسنين من المسلمين، ما بالنا إذا كان التاقض إلى مخالفة الأحكام الفقهية للمقررات العلمية الصحيحة. وأما الذين كفروا فيصدهم ذلك عن دين الله المتسم بالتناقض في تقديرهم، وهو في الحقيقة تناقض في سلوكنا نحن وليس في دين الله ونصوصه.

وكلامنا هذا لا يعني أننا ندعو إلى التقليد بالمطلق لما أنتجت الإنسانية خلال القرنين أو ثلاثة الماضية لا سيما وهي تفتقر إلى المرجعية الدينية، كما وقع للمنبهرين بالغرب في بداية القرن العشرين، من التغريببين والممسوخين من أبناء أمتنا، وإنما نريد الإشارة إلى أهمية الإنتاج الفقهي المبني على حقائق الوجود، وليس على ما تقرر في التراث والمتطلبات الدينية المنحصرة في علاقة الفرد بمصيره الأخروي وحسب؛ لأن أحكام الله واحدة، فالقانون الفيزيائي والقانون النفسي والإجتماعي والقانون السياسي، كل ذلك لا يقل أهمية عن الحكم الفقهي؛ بل لا يمكن أن يكون حكما فقهيا سليما إن لم يرجع إلى تلك المقررات العلمية في المجالات المعالجة؛ لأن جميع هذه القوانين الناظمة للوجود مصدرها واحد هو الله سبحانه وتعالى، وكما عبر عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الأحكام المدركة بمجرد العقل ومحققة للمصالح، “هي عبادات عقلية”، على اعتبار أن قضايا الوجود واحدة وقوانينها واحدة، وهي من وضع الله وليست من وضع مكتشفيها، وإنما الفرق في أن الأحكام الشرعية حلال وحرام والجزاء عنها أخروي، بينما القوانين الأخرى فجزاؤها حاصل بالوقائع التي تصيب الناس، بحيث يقع في الدنيا وربما يكون في اللحظة التي تقع فيها المخالفة، بحيث من أخطأ الصواب نال حقه، فمن يسقط من الطابق العاشر مثلا يموت أو يعوق، وهذا قانون فزيائي. ويبقى القانون الفقهي ينظر في جوانب أخرى، وهي أن هذا الذي سقط إن ألقى بنفسه فله حكم المنتحر، بخلاف الساقط خطأ له أحكام أخرى. والظلم يخرب المجتمعات، وثماره ظاهرة يعاني منها الجميع، بسبب أن هذا الجميع سكت وتساهل حتى عم الخراب، ومن ثم فإن الفساد نتيجة الظلم، وليس الظلم نتيجة الفساد… وهكذا.

ولذلك ما توصلت إليه الإنسانية من كشوفات علمية مهما كانت خلفيتها الأيديولودجية والثقافية، ولو كان أهلها ملحدون، فإنها تتحرر من مكتشفيها وتستقل عنهم بمجرد أن تصبح علما؛ لأنها إذا أصبحت علما فإنها تتحول إلى ملكية عامة، وكما قال حجة الإسلام الغزالي “طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى ألا بكون إلا لله“.

والتنكب لهذه العلوم وعدم اعتبارها، لا يسده كل ما نستنسخ من التراث، فيما عدا الأمور التعبدية التي لا مجال للعقل فيها ولا للإجتهاد، وإنما مردها إلى الثابت من نصوص الوحي وما يستنبط منه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!