الرأي
شعاره "رضا الله في طاعة وليّ الأمر"!

الإرجاء.. المذهب الذي ارتضاه الملوك والأمراء

سلطان بركاني
  • 5296
  • 39

بعيدا عن الخَطب الجلل الذي شغل أمّة الإسلام هذه الأيام، اختار خطيب المسجد النبويّ، الشّيخ صلاح البدير، أن يغرّد في خطبة الجمعة الماضية خارج السّرب، في وقت كانت دماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تغلي في عروقهم، بعد الإساءة التي تعرّضت لها الأمة الأربعاءَ الماضي في شخص حبيبها المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ارتقى الخطيب منبر نبيّ الهدى -صلّى عليه وآله وسلم- الذي تشرئب إليه الأعناق في مثل هذه النّوازل، ولم يُشرْ أدنى إشارة إلى الإساءة تصريحا ولا تلميحا، ولم يتحدّث عن نصرة خير البرية ولا عن واجب الرّاعي والرّعية في هذه الرزية، واكتفى بدعاء مقتضب في آخر خطبته على من آذى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، دون أن ينسى الدّعاء مطوّلا للوطن والملك ونائبه ومستشاريه وحاشيته ورجال الأمن، لكنّه ربّما نسي أنّ الذي أسيء إليه هو صاحب الجسد الشّريف الذي لا يبعد عنه سوى خطوات معدودات، ولا يزال غضّا طريا كما دفن قبل 1425 سنة.

رضا الله في طاعة وليّ الأمر!

لم تكن هذه المرّة الأولى التي يخذل فيها خطباء المسجد النبويّ رسول الإسلام عليه الصّلاة والسّلام، فقد سبق لهم أن لزموا الصّمت إزاء حملات السّخرية والتّشويه التي انطلقت بعد أحداث الـ11 سبتمبر 2001م، نزولا عند رغبة ولاة الأمر الذين لا تعجبهم استثارة مشاعر المسلمين، وخوفا من سياطهم التي طالت كثيرا من العلماء والدّعاة في بلاد الحرمين، لا لشيء إلا لأنّهم انتصروا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وطالبوا قادة أهمّ دولة إسلاميّة باتّخاذ مواقف صارمة ضدّ الدّول التي تسمح لوسائل إعلامها بالإساءة إلى مقدّسات المسلمين!.

وهكذا أصبح الحديث في قضايا الأمّة المصيريّة، وفي الأحداث التي تشغل العالم الإسلاميّ وينتظر المسلمون في شأنها كلمة حاسمة تقال من على أهمّ منبرين في العالم الإسلاميّ، يحتاج إلى إذن خاصّ من ولاة الأمر الذين وجدوا بدورهم ضالّتهم في المذهب الذي يتبنّاه كبار علماء المملكة، ويقضي بتحريم الحديث عن ولاة الأمر على المنابر وفي وسائل الإعلام وعلى صفحات التّواصل الاجتماعيّ، والاستعاضة عن ذلك بالدّعاء لهم والثّناء عليهم، ولو أتوا بالعظائم ومنكرات الأمور، مستندين في ذلك إلى آيات يغُضّون طرفهم عن سياقها، وإلى أحاديث بعضها لا يصحّ، وبعضها الآخر ينزلونه في غير منازله.


تناقضات غلاة الطّاعة

لقد أوقع الغلوّ في طاعة ولاة الأمر كثيرا من علماء المملكة في تناقضات لا يقبلها دين ولا عقل، جعلت المسلمين يتساءلون: كيف لهؤلاء العلماء أن يستميتوا في تحريم الاحتفال بالمولد النبويّ الشّريف، بينما لا يجد بعضهم حرجا في تسويغ الاحتفال باليوم الوطنيّ الموافق لـ23 من سبتمبر كلّ عام، وكيف لهم أن يحرّموا المسيرات والمظاهرات التي تخرج نصرة لقضايا الأمّة، ويُفتوا بأنّها بدعة خارجية وأعمال غوغائية، بينما يلزمون الصّمت إزاء مشاركة ولاة الأمر في مسيرات تنصر من يسبّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسخر منه!، وكيف ينكرون الخروج على قادة الدّول الذين يرضى عنهم ولاة الأمر في السعودية، كمبارك والسيسي، بينما يسوّغون في مقابل ذلك الخروج على المغضوب عليهم، كما حصل مع الرئيس المصري محمد مرسي!، وكيف يحرّمون مشاركة المرأة في المجالس النيابية والمحلية إذا وافق ذلك هوى السّلطة الحاكمة، ثمّ يتراجعون عن التّحريم ويباركون مشاركة المرأة في الحياة السّياسية عندما يبدو لولي الأمر رأي آخر!… إلى آخر ما هنالك من الفتاوى التي لا تعدو أن تكون في كثير من الأحيان صياغة شرعية للبيانات الصادرة عن الديوان الملكي؛ بل قد تمادى بهم الأمر إلى الاهتمام بإرضاء كلّ من يُهمّ ولاةَ الأمر رضاه، ولو كان في رضاه سخطُ الخالق جلّ في علاه، ولهذا نجدهم قد لزموا الصّمت إزاء المجازر التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، والمجازر التي اقترفتها القوات الفرنسية في مالي والصّومال وإفريقيا الوسطى، بينما يسارعون ـ في المقابل ـ إلى إدانة عملية شارلي إيبدو، وإعلان براءة الإسلام والمسلمين من مرتكبيها، بشكل هستيري، جعل الأوساط الإعلامية في أمريكا وفرنسا تتّخذ موقفهم مادة للتندر والسخرية، وقد تعجّب الكاتب الأمريكيروبرت فيسكفي مقاله علىالأندبندنتالخميس الماضي من دفاع السّعوديين عن حرية التّعبير في قضية شارلي إيبدو، وهم الذين يكفرون بهذه الحرية في بلادهم، وتندّر على دموع التّماسيح التي ذرفها من أسماهمالوهابيينعلى ضحايا هجوم باريس، متّهما إياهم بالنّفاق.

ليس كلّ علماء السعودية على هذا النهج، بل إنّ مئاتٍ من الدعاة والعلماء يرفضون هذه الطاعة العمياء لولاة الأمر والأمراء، ويجهرون بالحقّ في النوازل والملمّات، على تفاوت بينهم، ولعلّ الشيخ سعود الشريم، خطيب المسجد الحرام، يمثّل واحدا من هؤلاء الذين كثيرا ما يتمرّدون على خيارات ولاة الأمر، وقد تحدّث في خطبة الجمعة الماضية عن وجوب نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو وإن لم يصرّح بالنّكير على الصحيفة الفرنسية وعلى من دافع عنها، فإنّه استنكر الإساءة إلى الحبيب المصطفى واستهجن التّخاذل عن نصرته.


وماذا بعد؟

نقل ابن كثير فيالبداية والنهايةعن ابن عساكر رواية له عن النَّضْر بن شُمَيْل قال: دخلتُ على المأمون، فقال: كيف أصبحت يا نضر؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: ما الإرجاء؟ فقلت: “دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم“.

 

لقد تجرّع المسلمون كؤوس الذلّ والهوان كلّها، ولحقهم من المهازل ما لا قِبل لأمّة الإسلام به، بسبب ركون كثير من العلماء إلى الإرجاء الذي جعل قضايا الدّين وأحكامه، رهنا للملوك والأمراء، يوجّهونها حسب مصالحهم ومصالح حلفائهم وأصدقائهم، ممّن لا يرقبون في أمّة الإسلام إلاًّ ولا ذمّة، وقد ساهم في انتشار هذا الفكر إضافة إلى رغبة الحكّام والأمراء، دعم كثير من الأوساط الغربيّة، التي وجدت فيه ضالّتها وأوصت بترويجه، كما أوصت من قبل بترويج المذاهب القبورية والباطنية، وإذا كانت هذه الأخيرة تخدم العلمانيين وأولياءهم في دعوتهم إلى فصل الدّين عن السياسة، فإنّ الإرجاء يخدم أعداء الأمّة في إضفاء المصداقية والغطاء الشرعي على سياسات الحكّام الموالين لهم.

مقالات ذات صلة