-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الاحتفالُ بالمولد النبوي بين المجوِّزين والمبدِّعين

خير الدين هني
  • 979
  • 1
الاحتفالُ بالمولد النبوي بين المجوِّزين والمبدِّعين

الاختلاف في الرأي والفكر والاجتهاد والنظر ليس موقوفا على المسلمين دون سائر البشر، بل هو ظاهرة مشتركة بينهم وإن اختلفت أجناسُهم ومللهم ونِحلهم، لأن النزعة الخلافية لدى الإنسان، تحكمها الطبيعة الخلقية التي وسمتها الفطرة المركوزة في جيناتهم وسليقتهم وصبغياتهم الوراثية، وآية هذه الفطرة في الخلاف والاختلاف ما نراه من اختلاف كبير تنشأ عنه منازعاتٌ بين طوائف الأمم، عبر مدارسهم الفكرية والمذهبية ووجهات نظرهم في التخطيط والاستشراف والتقويم والحكم على الأشياء، ومردُّ ذلك فروقهم الفردية في درجات الذكاء، والتحصيل الدراسي والخبرات والتجارب في ضروب الحياة، والدواعي السياسية والمصالح والمنافع.

هذا التباينُ في الفروق الفردية نجده بين الآباء والأبناء وبين الإخوة الأشقاء وغير الأشقاء، ونجده حتى بين التوائم المتخلِّقين من انشطار نطفة واحدة، ولهذا السبب نجد النصارى انقسموا على أنفسهم عقيديا فأصبحت تتنازعهم أربعةُ مذاهب دينية كبرى، وانقسم اليهود على أنفسهم ضمن حركات مختلفة كاليهودية الأرثوذكسية الحديثة، واليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية، وانقسم المسلمون إلى طوائف كثيرة أكبرهما طائفتا السنة والشيعة، وتفرّقوا حول مدارس فقهية أشهرها أربعة مذاهب سنية، وخامسها هو المذهب الشيعي الإثنا عشري، وسادسها هو المذهب الزيدي (الحوثيون).

وعلى هذا لا يمكن أن نعتبر الخلاف بين المسلمين أمرا نشازا خالف المألوف البشري، ونشغل فكرنا بما هو أمرٌ طبيعي اتسمت به الطبيعة البشرية، ونتحرّج منه عند الحديث عنه فينتابنا الانزعاجُ من القضايا الخلافية المطروحة بيننا، من ذلك المشكلة الخلافية التي أصبحت تؤرق حياة المسلمين، وهي ظاهرةُ الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، فنجعل هذه الظاهرة مثار غضب فنصبّ عليها جام غضبنا ونفيض فيها بالكلام الجارح، وكل فريق منا يستند إلى مصادره للاستدلال بها على صحة رأيه واجتهاده وحكمه.

وأصل الاختلاف يعود إلى نزعتين اثنتين، الأولى: أصحاب النزعة النصية المبدِّعين من الملتزمين بحرْفية ظاهر النصوص من غير نظر إلى المآلات التي تقتضيها حركةُ التغيير في حياة المسلمين، والثانية: المجوِّزون ممن يدعون إلى ضرورة  التدقيق في المعنى الباطني للنصوص الذي يستنبط من المقاصد الكبرى للشريعة، حين تضيق المصادر الخمسة التي وضعها الأصوليون كقاعدة لاستنباط أحكام التشريع، لأن المصادر الخمسة -وهي خطواتٌ منهجية متدرجة في التأصيل والتقعيد للنظر والاجتهاد- إنما تنضوي تحت الفقه المقاصدي ذي الأبعاد الغائية، وحين يضيق مجالها عند المآلات والنوازل، وعند الاقتضاء يتوسع المفتي بالنظر إلى الأهداف الكبرى التي تقوم الشريعة على أسسها وأركانها، فيردُّ الفروع إلى الأصول والمتشابه إلى المحكم، ويفتي بما تقتضيه المقاصد الكلية، حفاظا على الدين والنفس والعرض والمال والوحدة والسيرورة والتكامل بين المخرجات الشرعية ذات الصلة.

وهذا من ألطافه تعالى بعباده المؤمنين، إذ جعل الفروعَ وتشعُّباتها غير المنتهية بسبب تغيير حركة الزمن والحاجات الاجتماعية، تستند إلى الأهداف العليا المتضمنة في الأبعاد المقاصدية، وهذا ما عمل به أبو حنيفة –رحمه الله- عندما رُفعت إليه مسألة رجل حلف بالطلاق الثلاث عندما ألفى زوجته ارتقت على سلم أسندته إلى جدار فناء المنزل لتتطلّع إلى الشارع، وكان الفقهاء المقلدون لحرفية النص قد أفتوا قبله بالطلاق البائن، ولكنّ أبا حنيفة بعقله الحكيم وعلمه الغزير وسعة فقهه وقدرته العجيبة على استنباط الأحكام من مدلولات النصوص وأبعادها ومقاصدها، وجد حلا سحريا للمشكلة، فأبرّ يمين الزوج بحيلة فقهية غاية في الطرافة، وبها ابتكر حلا فقهيا عبقريا إذ أمر جماعة بحمل المرأة والسلم معا ووضعهما على الأرض، من غير أن تصعد أو تنزل بخطوة واحدة كما علّق الزوجُ يمينَه، إذ قال لها: أنت طالقٌ ثلاثا إن صعدتِ أو نزلت، فسكنت المرأة في مكانها.

ومثله فعل ابن تيمية –رحمه الله- حين اعتبر الطلاقَ الثلاث بكلمة واحدة لا يُعدّ طلاقا بائنا، وإنما يعدُّ طلاقا رجعيا، فشنّع به الفقهاءُ المقلدون لحرْفية النصوص وقذفوه بكل معرّة، وأوغروا صدر الحاكم فسجنه على إفتائه بذلك، ولكنه –رحمه الله- صمَّم على فتواه لأنه كان يرى فيها الحق الذي لم يدركه السطحيون من أصحاب الظاهر، وبفتوى ابن تيمية التزمت المجتمعاتُ الإسلامية اليوم بهذه الفتوى بما فيها الجزائر التي كانت قبل اعتمادها فتوى ابن تيمية، تعتمد الفقه المالكي الذي كان يُبين الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ولا يعدّه طلاقا رجعيا.

والتنازعُ الحاصل اليوم بسبب اختلاف طرق التفكير والتحصيل، والنظر في قواعد الاجتهاد والاستنباط وفق ما يقتضيه فقه الأولويات، هو ما ينبغي أن تراعى فيه حركة التغيير والحاجات الاجتماعية ومصالح الأمة، مما يُلزم الفقيه ترتيب الأولويات على نحو أبي حنيفة وابن تيمية، اللذين خالفا طرق الاجتهاد المعهودة في أزمنتهما، حيث ابتكرا فتاوى جديدة حفظت الأمة من الانقسام والتفكك، من غير تجاوز القواعد الشرعية، لأن العقل الإنساني مصمّم من قبل الباري سبحانه، من أجل وظيفة القدرة على التفكير والإدراك والتمييز والتمحيص والمقارنة والمقابلة بين القضايا المختلفة، ليرجّح منها ما يُصلح به شأنه وشأن غيره دون تفريط أو إفراط، ولكن عندما يفقد العقل سلامة فطرته يفقد معايير تفكيره وإدراكه وحينها تختل آليات تفكيره واجتهاده.

وظاهرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، أقضّت مضاجعَ المسلمين وجعلتهم على فريقين متنازعين في نظرتهما إلى شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فريق جامد التزم بالقديم من غير اجتهاد في المآلات الجديدة، وفريق أجاز فاعتبر الاحتفال وجهٌ من وجوه البدع المستحسنَة إحياء لذكرى مولده (ص)، لاسيما وأن العصر طغت عليه نزعة انتشار موجات الإلحاد والشك والارتياب والردة، وأصبح المسلمون محاطين بمشاغبين عقائديين من أبناء ملتهم فضلا عن موجات التنصير والتغريب، وقد سيطر المشاغبون والمرجفون على القنوات والفضائيات وأصبحوا يروّجون للشك والإلحاد والمروق، وأضحى لهم أتباعٌ كثر من نخبة الشباب المتعلمين، ممن تأثروا بأفكارهم المنافية للدين والتراث والمقدس، وقد ساعد على شيوع هذه الحركة المشاغبة، مظاهر الحداثة والميوعة والتكسّر والترف، وغياب الخطاب الديني المتوازن الذي يقوم على قواعد منسجمة مع المنقول والمعقول.

التنازعُ الحاصل اليوم بسبب اختلاف طرق التفكير والتحصيل، والنظر في قواعد الاجتهاد والاستنباط وفق ما يقتضيه فقه الأولويات، هو ما ينبغي أن تراعى فيه حركة التغيير والحاجات الاجتماعية ومصالح الأمة، مما يُلزم الفقيه ترتيب الأولويات على نحو أبي حنيفة وابن تيمية، اللذين خالفا طرق الاجتهاد المعهودة في أزمنتهما، حيث ابتكرا فتاوى جديدة حفظت الأمة من الانقسام والتفكك.

وقد زاد على تشجيع هذه الحركة المناوئة، أن وقف وراءها جماعاتُ ضغط مؤثرة بمناصبها أو جاهها ووجاهتها أو بمالها ونفوذها، منها من يعمل في الظاهر ومنها من يعمل في الخفاء، وقد يكون لبعضها انتماءٌ إلى دوائر صنع الرأي العامّ من طريق الإعلام أو مراكز التأثير، لارتباطها العضوي بالدوائر السياسية أو العقيدية أو الثقافية واللغوية.

وحين يغيب الخطابُ الديني المتوازن بمعقوليته وشريعته، يضعف الوازع الديني في نفوس الناشئة، فينصرفون إلى طلب اللهو واللذة في أماكن الترف والمجون، كيما يُشبعون حاجاتهم الجسدية مما لذّ وطاب، وإن كان محظورا شرعيا وأخلاقيا لأن الحياة الإنسانية لا تقبل الفراغ، فهي تنزع على الدوام إلى الإشباع الروحي إن وجدت الأجواء ملائمة والظروف مناسبة ومكيّفة بما يحقق تلك الحاجات، فإن غابت الأجواء الروحية أو غُيّبت لعلة فاعلة بإرادة وقصد، كما هو الأمر منتشر في البلدان العربية والإسلامية، بسبب الإيعاز من الجهات النافذة من جهة أو بسبب الغزو الثقافي المستورد من الخارج بفعل فاعل مريد من جهة أخرى، أو بسبب طغيان الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي التي تعمل على إفساد عقائد الشباب وجعله يبتعد عن الأجواء الروحية مهما كانت مظاهرها، كيما لا يؤدلج بالأفكار الدينية والعقيدية، وهي العقائد التي تجعله يعيش من أجل غاية عليا وهدف أسمى، وليس من أجل اللهو واللعب والاستمتاع بلذات الحياة، لأن الأيديولوجيا تعكّر الأجواء السياسية وتُفسد متعتها على أهلها ممن لا يريدون المنازعة على الحكم والسياسة.

والاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، يدخل ضمن الأولويات الشرعية والمقاصدية، وإن كان بدعة فهو بدعة حسنة، لأنه يربط شباب الأمة بنبيِّها وسيرته العطرة التي غيَّرت مسار التاريخ، وحولت مجرى العقائد الوثنية إلى عقيدة التوحيد والانضباط بالقواعد الشرعية التي تخدم الأمة وتحفظ كينونتها، والاحتفال لا يكون بالمظاهر الجاهلية المنافية لروح التشريع، وإنما يكون بالدرس والمحاضرة والندوات وسرد أجزاء من سيرته وهديه وإرشاده ومحاربته الوثنية والأخلاق الجاهلية، وهذا كله حسنٌ وجميل بل مطلوب فعله، لأنه وسيلة قوية ومنيعة لمحاربة مظاهر التنصير والتشكيك المنتشرة بقوة، والفاطميون حينما احتفلوا بذكرى المولد النبوي إنما خالفوا أبناء مذهبهم من البويهيين الشيعيين، الذين ابتدعوا فكرة الاحتفال بيوم عاشوراء، وقد ابتدعوا مظاهر جاهلية تقدس الحسين وأهل البيت، وهذا مما لا يجوّزه التشريعُ الإسلامي لأن فيه عبادة للأشخاص والأحداث والرموز.

وقد ابتدع المظفر لدين الله الفاطمي فكرة الاحتفال بالمولد النبوي، لما رآه من مناكر احتفالية مخالفة للتشريع، ابتدعها البويهيون الشيعة عام 352هـ، حين سيطروا على بغداد بعدما غلبوا الخليفة العباسي على أمره وأصبح خليفة بالاسم فقط، فأمروا بغلق الأسواق ومنع المطاعم من الطبخ، ونصَّبوا القباب في الأسواق وعلّقوا عليها المسوح، وأمروا النساء بالخروج إلى الشوارع ونشر شعورهن واللطم على الخدود، وإقامة المآتم على استشهاد الحسين رضي الله  عنه، وأضاءوا البيوت والشرفات والشوارع بالسرج والمصابيح، وجعلوا من حادثة غدير خم مناسبة لإحياء ذكراها، فهذه المظاهر المنكرة لا يقبلها مسلمٌ يؤمن بوحدانية الله وربوبيته، وزاد عليها إسماعيل الصفوي الذي تغلّب على إيران السنية سنة 1505م، ثم ابتدع فكرةَ سبِّ الصحابة وأم المؤمنين عائشة وتكفيرهم ولعنهم، وأجبر العلماءَ ووجوه الناس على التشيُّع والرفض فلما أبوا قتل منهم خلقا كثيرا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • مبروكي اسماعيل

    خلاصة القول ان التطبيع والتصهين حرام حرام حرام الي يوم الدين يا عرب يا مسلمين . قال تعال : لتجدن اشد الناس عداوة للذين امنوا اليهود والذين اشركوا . وقال ايضا:ا يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {المائدة: 51}. الاية صريحة جدا وواضحة فاحذروا يا مسلمين