-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر تفقد واحدة أخرى من جميلاتها المجاهدات

الجزائر تفقد واحدة أخرى من جميلاتها المجاهدات
ح.م

على حين غرة، امسكت بوشاحها، ووضعت قدمها في الركاب، وامتطت صهوة جوادها الأدهم، وهو يصهل وسط لجاج المودعين، ثم أغمضت عينيها، وارتضت السير إلى نهايتها مؤمنة ومسلمة بما خطته يد القدر. فلعلها أدركت بقلبها الخفاق واليقظ أنها زفت من كرم عائلي فياض غمرها به أبناؤها وبناتها وأحفادها وأسباطها وأحبتها في آخر أيام عمرها إلى كرم أكرم الأكرمين الذي لا ينقطع.

كانت الوالدة جميلة بوسام امرأة من جيل النساء الملتزمات اللائي قاومن مشاق الحياة، ووقفن في معتركها مقاومات؛ لأنهمن كن يؤمن بأن الحياة عقيدة، وأن نوائبها وصروفها لا تواجه إلا بالجهاد المتجدد. فلم تكن نساء جيلها الريفيات ينهين نفض أيديهن من أشغال البيت وتربية الأولاد حتى يذهبن لغمسها في أعمال أخرى متعبة هي من اختصاص الرجال أصلا. وكان طين الغضار الذي يصنعن منه أواني الطهو ومواعين الأكل والشرب وأدوات إدخار الغلال ومشتقات الألبان وحفظها، كان هذا الطين الأملس الذي يتسلل بين أصابعهن بمثابة الحناء التي لا تفارقهن، وكان سخام المداخن والقناديل الأسود هو زينتهن في كل فصول السنة. وكان التعب المبرح علامة بارزة في يومياتهن.

ألف منظرو الاستعمار الفرنسي، وكلما انساقوا في الحديث عن النساء الجزائريات البطلات، أن يسمونهن: الفاطمات Les Fatmas ، حتى لا ينزلق اسم إحدى الجميلات على ألسنتهم، فهم يحذرون إشاعة أسمائهن حتى لا تكون شهادة اعتراف توقع بهم. ويعرف الناس، في الجزائر وفي خارج الجزائر، ومن خلال الرواية المتداولة شفويا وكتب التاريخ أن جميلات الجزائر الثلاث هن: جميلة بوحيرد وجميلة بومعزة وجميلة بوباشا اللائي لاحت أسماءهن، وترددت على الألسن وراحت تداني النجوم. ولكن قليلا من يعرف أن هناك جميلات أخريات ضحين بشبابهن في سبيل الوطن، وفديناه بدم المهج الدافق وأدمع العيون الرقراق، ومنهن جميلة مشتى الرقراقة برأس الوادي من ولاية برج بوعريريج المجاهدة السيدة جميلة بوسام حرم الإمام المجاهد وقاضي الثورة المعروف محمد بوسام، رحمهما الله.

لم يكن هذا الإغفال، وإن طال أمده، يحمل في مطاويه ظلما تتحسسه المجاهدة السيدة جميلة بوسام، ولم يكن بقاؤها في الظل طيلة سنوات الاستقلال التي عاشتها يثير في نفسها ألما واغتياظا، أو يسبب لها أسى وحسرة؛ لأنها كانت امرأة مؤمنة وقنوعة ومقتنعة، ومنذ عهودها الأولى، بأن خدمة الوطن لن يعدو أن يكون أكثر من واجب لا يؤجل، وأن الذود عن حماه هو التزام لا يرد ولا ينفع معه التردد. وهي القناعة نفسها التي طغت على فكر ووجدان زوجها الحاج محمد بوسام الذي اكتفى بذكر جهادها الباذخ المثقل بالأعمال والأهوال ذكرا عابرا في مذكراته التي استنطق فيها ذاكرته بسنوات قليلة قبل رحيله، وجمعها في عنوان: “من الذاكرة”، إذ تعمد أن يشير إليها إشارة المسرع المستعجل في الأخير، وبعد أن منح فضل الأسبقية والتقدم لمجاهدتين أخريين. ولم يلتفت إليها سوى بسطر واحد ضمنه ما يلي: (…جميلة بن حميميد زوجتي وأم أبنائي ورفيقة الدرب وشريكة الكفاح مجاهدة). وكأن الرجل وجد في نفسه حرجا لو يخصص لها صفحة كاملة أو صفحتين. وغير بعيد عن الاقتباس السابق، وكمن يصرح عن قناعة تبريرية يقول: (لذا ما ذكرته لا منة فيه أو تعال بقدر ما هو تذكير للأبناء بمآثر الآباء والأجداد كي يستمر النهج وتتقد الشعلة كلما لامسها الأفول…).

منذ زواجهما، سكنت السيدة جميلة بوسام وزوجها مع عائلته في الرقراقة التي تجلس في أعلى منحدر ينتهي بواد سحيق، وراحت تعاند الجبال المحيطة بها كمن يرغب اللحاق بها، وتعانق القمم الجبلية القريبة منها كقمة سيدي سحاب التي تفصلها عن المعاضيد موطن الحماديين الأول وقمة شقائق الحمام. وكان موقعها الجبلي كاف بأن يجلب إليها ترشيح اعتمادها كإحدى المواقع التي ستحتضن الثورة، وتشهد مواجهات لا تتوقف بين المجاهدين والجيش الفرنسي. ولما وصلتها تباشير الثورة، كان الحاج محمد بوسام المتأهب من بين المنخرطين الأوائل في الفعل الثوري ضمن اللجان الخماسية في مطلع سنة 1955م. وأصبح مسكنه العائلي مركزا من المراكز الذي يأوي إليه المجاهدون للاستطعام وللفوز بقسط من الراحة. ومع الوقت، أصبح من بين نقاط العبور التي يمر بها المجاهدون الذاهبون في تنقلاتهم من قلب الأوراس إلى مناطق أخرى أو العائدون إليه.

كان هذا المركز في أيام الثورة أشبه ما يكون بخلية نحل. ولم تكن الحركة تهدأ في جوفه وفي محيطه إلا في الأيام العصيبة التي يشتد فيها الحصار وتتكثف المراقبة، فيضطر المجاهدون للبقاء في مآويهم الجبلة المحصنة. وكانت الواجبات المنوطة بالنساء اللائي يقمن عليه ثقيلة ومرهقة، وخاصة المجاهدة السيدة جميلة بوسام باعتبارها ربة البيت. فعلى كواهلن يقع تحضير وجبات الطعام الساخنة للمجاهدين مهما كان عددهم، وغسل أثوابهم، وترقيع الممزق منها، وتهيئة أماكن جلوسهم، وحراسة المركز إذا لزم الأمر خوفا من المباغتة. ومن بعد رحيلهم يسرعن لإخفاء آثار مرورهم عن آخرها. وفي مذكراته يذكر المجاهد محمد بوسام أن هذا المركز المقام في مسكن عائلته استمر في إيواء المجاهدين لمدة ثلاث سنوات امتدت من 1956 إلى 1958م. ولم يوصد بابه إلا حين أن وضعت المنطقة تحت المجهر، وأصبحت بقعة محرّمة في الليل والنهار، ومنع الدخول إليها أو الخروج منها إلا بترخيص إداري. وفي سطور قليلة، يتحدث عنه قائلا: (… فمثلا في المركز الذي كن في بيتي، والذي كنت أشرف عليه رفقة والدي المرحوم الشيخ سعد بن عبد الله بوسام، كان لا يخلو من المجاهدين وجنود وضباط جيش التحرير الوطني إلا عند الضرورة القصوى للاحتياط. ومن بين الذين ترددوا عليه المرحوم عبد المجيد بورزق، الشيخ يوسف يعلاوي والشهداء يوسف القيرواني، محمد غلوس، علي برباش، أحمد مصمودي، علاوة عبد العزيز وغيرهم…).

بعد أن ألقي القبض على زوجها عقب وشاية حقيرة، ودقت أجراس الإنذار وصيحات التحذير في وجهها منبئة بأن المكر القادم الذي يتربص بعائلتها الصغيرة سيكون أشرس وأفظ وأقسى، لم تنهزم المجاهدة السيدة جميلة بوسام، ولم تحزن لما يحيق بها من الأذى. وصبرت أمام هذا الاختبار العسير، واحتضنت أبناءها إناثا وذكورا. واضطرت أن تغادر موطنها هروبا من بطش العدو، وشاءت الأقدار أن تنقلب السيارة التي كانت تمتطيها مع فلذات أكبادها، وأن يصاب ابنها نورالدين بكسر مزعج في إحدى قدميه. وساقت هذه الحادثة المفجعة ألما حارقا إلى قلبها لم ينجل إلا بعد أن أشرقت شمس الاستقلال، وجاءها زوجها عائدا من معتقل قصر الطير.

لم أقابل الوالدة المجاهدة السيدة بوسام جميلة إلا مرة واحدة لما ذهبت لأعود زوجها في مرضه الأخير. ويومئذ، وجدتها امرأة تسبح في هدوء عارم لا يمكن خلخلته، وملفوفة في  خدر من الحياء المنبعث من أعماقها. ولم أسمع منها سوى كلمات قليلات نطقتها بصوت خفيض متبوعة بدعاء سخي.

كان أبناء وبنات المجاهدة السيدة بوسام جميلة محسنين إليها في سنوات عمرها الأخيرة كما فعلوا مع والدهم، وملأوا من حولها الفراغ الذي تركه هذا الأخير في محيطها الاجتماعي. وكان نجلها الأخ المربي عيسى لا يتوقف عن التردد عليها والمكوث بجوارها رغم بعد المسافة بين مسكنيهما، وأحسب أن إخوته وأخواته كانوا كلهم على شاكلته في خدمة والدتهم، وبذلك أعطوا مثالا يحتذي في البر بالوالدين. وكنت كلما هاتفته إلا ووجدته وأخاه نور الدين جليساها الوفيان يستأنسان بها وبأحاديثها، وكنت أغبطهما على هذه النعمة التي لا يحس بها إلا من فقد والدته. وكانا يبلغان لي سلامها ودعواتها. وكنت أسعد؛ لأنني أحس بان هناك والدة أخرى تدعو لي من بعيد. ولذا كانت خسارتي من بعد فقدانها لا تقل وزنا أو كيلا وعدا أو حسابا عن خسارة أبنائها وبناتها لها.

إن تجاوزني أداء الواجب الأكبر مع الوالدة المجاهدة السيدة بوسام جميلة كاملا بحضور مراسيم تشييعها ودفنها بمحاذاة زوجها ووالده في مقبرة “سيدي أبي التقى” في مدينة برج بوعريريج بسبب عارض مقعد، فإنني لم أسمح لنفسي أن يفوتني أداء الواجب الأصغر مع أبنائها الكرام. فبعد يوم من مواراتها الثرى، ذهبت إليهم معزيا ومخففا عنهم آلام المصيبة ومسليا من وقعها ومحفزا على الصبر أمامها. وأحسست أن أثر الفراق كان على فؤاد صغيرهم الأخ عبد الحميد أعنف وأشق من بين من قابلت منهم.

اعترف أنني لم أكتب تأبينية لوالدة عزيزة؛ لأن الأمهات لا يؤبن طالما أنهن خلفن في أجسامنا آثارا من دمائهن ولحمهن ونتفا من عواطفهن، وأهدين إلينا قطعا من أعز ما يملكن.

نامي في حفظ الله أيتها المرأة الجميلة… وأعلمي أننا لن ننساك حتى نلقاك هناك في خمائل جنة الرحمن، فنسعد بك وتسعدين بنا بأضعاف ما كان عليه الحال في دنيانا العابرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!