-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشاعر رامبو والإسلام والجزائر

أمين الزاوي
  • 8438
  • 32
الشاعر رامبو والإسلام  والجزائر

لا أحد مِنْ رهط الأدباء وعشاق الشعر والحرية لا يعرف الشاعر الفرنسي المتمرد أرتور رامبوArthur Rimbaud (1854-1891)، عبر حياته القصيرة ما بين الشعر والسجون وتهريب الأسلحة والبارود والتجارة في البن والتوابل والرقيق الأبيض والأسود والحشيش، لسنوات أقام في اليمن وإثيوبيا والصومال وبعض الأدغال باحثا عن هروب من جحيم الحياة الباريسية الباردة الروتينية والمنافقة، هكذا يترك فرنسا وبلجيكا وبريطانيا ويرحل في اتجاه الجنوب إلى الاسكندرية، وفي هذه المدينة تسرق منه أمواله ووثائقه وجميع أغراضه مما دفعه للبحث عن وسيلة لمغادرة الإسكندرية، وسيلة لن تكون إلا بـ “الحرڤة” (على لغة العصر) وهكذا يخرج رامبو “حراڤا” على متن باخرة ركبها متخفيا بطريقة غير شرعية لتحط به في ميناء جدة ببلاد الحجاز، يُكتشف أمره ويتم سجنه لمدة ستة شهور بمدينة جدة، وفي هذا السجن يشرع في حفظ القرآن ويتعلم اللغة العربية فيتقنها، وحين يطلق صراحه، ويبدأ في ممارسة التهريب، يروى أنه كلما اعترضت عصابة ما قافلة رامبو كان يقرأ ما حفظه من القرآن لأفراد العصابة فيطلق صراحه.

 

لم يترك المتخصصون في شعر رامبو وما أكثرهم في الجامعات الأوروبية والأمريكية واليابانية صغيرة أو كبيرة، شاردة أو واردة إلا ووقفوا عندها محاولين قراءة وتفسير أسرار عبقرية هذا الشاعر المعجزة، ولم يترك المتخصصون في الاستشراق بكل مدارسه نقطة وصل إليها رامبو إلا وحللوها وعقدوا رباطا بينها وبين نصوصه الشعرية، تحدثوا عن زياراته لمصر والحجاز وفلسطين وأريتيريا والصومال واليمن، ولم يتركوا بلدا وصلها إلا ووقفوا عندها بحثا عن ظل له، وكذا وقفوا بدقة أيضا عند جميع ما كتبه رامبو من نصوص وملاحظات أساسية أو هامشية وفككوها تفكيكا مستخلصين خصائص عين الشاعر التي ترى ما لا يراه الآخرون من قيم الجمال والتسامح والحرية وكذا مظاهر الظلم والمعاناة والفقر والطبيعة القاسية والمثيرة في الوقت نفسه، كل شيء درسوه إلا قصيدة واحدة خص بها الجزائر والتي عنونها “يوغرطة”، وقد كتب هذه القصيدة وهو ابن الأربعة عشر سنة من عمره، أي لم يكن قد بلغ سن الرشد بعد، وعلى الرغم من هذا العمر المبكر الذي كتبت فيه القصيدة إلا أنها كانت علامة مركزية في تجربة رامبو الشعرية، تلك التجربة التي وضعت الشعرية الفرنسية برمتها على سكة الحداثة، والغريب في الأمر أن هذه القصيدة   كتبها رامبو باللغة اللاتينية ولم تترجم إلى الفرنسية إلا متأخرا كان ذلك سنة 1932.

في قصيدة “يوغرطة” أراد الشاعر رامبو وهو يتحدث مشيدا بالمقاومة الشجاعة والفروسية النبيلة  للقائد يوغرطة الذي حارب  روما أن يبرم مقارنة مع المقاومة الشعبية الشجاعة والمستميتة التي قادها الأمير عبد القادر وجنوده وأتباعه  ضد الاستعمار الفرنسي، ما أشبه اليوم بالبارحة.

يقف رامبو من خلال مضامين هذه القصيدة موقفا مضادا لذلك الموقف الاستعماري الذي تبناه الشاعر والروائي فيكتور هوغو من قضية غزو الجزائر، فإذا كان رامبو قد ناهض الاستعمار واعتبره علامة قهر واستبداد ضد حرية الشعوب وبالتالي يجب مقاومته فإن فيكتور هوغو، على العكس من ذلك، أشاد بهذا الاستعمار واعتبر غزو العسكر الفرنسيين للجزائر ما هو إلا استعادة لإفريقيا المسيحية اللاتينية وأن الاستعمار الفرنسي للجزائر ولإفريقيا هو ظاهرة حضارة، فوصول الفرنسي إلى هذه البقاع هو من أجل تحضير هذه الجغرافيا البشرية المتخلفة وإلحاقها بركب التاريخ.

لقد ظلت قصيدة “يوغرطة” لرامبو منسية ومهملة من قبل مؤرخي الآداب الفرنسية ومؤرخي الشعر على وجه الخصوص إلى أن جاء كتاب “رامبو والجزائر” لهادي عبد الجواد Rimbaud et l?Algérie, Hédi Abdel-Jaouad, éditions Paris Méditerranée 2004.

والذي حلل فيه القصيدة وأعادها للقراء في وقت كثر فيه الحديث عن مستوى الخطابات السياسية عن “تمجيد الاستعمار من جهة وعن تجريم الاستعمار من جهة أخرى” متوقفا، في الوقت نفسه، عند الإبهار الذي مثلته الجزائر على هذا الشاعر العبقري، مما ولد انبهارا أوصل رامبو إلى حالة من الحلولية في تراب ورمزية هذا البلد، إذ يتخيل أن “أباه الغائب”  لن يكون إلا ذلك العربي من قرية سبدو أحد أواخر قلاع جنود الأمير عبد القادر الذين قاوموا الاستعمار وما استسلموا وما تنازلوا عن قناعاتهم في مشروعية مقاومتهم وفي حقهم في الحرية والاستقلال، ويتبين من القصيدة بأن رامبو يعد من أوائل الشعراء الذين انحازوا إلى القضية الجزائرية وإلى شرعية الدولة الوطنية المستقلة.

كان رامبو متنبي الشعر الفرنسي، على خلاف مع الفكر النمطي في الشعر والسياسة، وحتى وهو يكتب عن الجزائر كان يحاورها ويشيد بها من خلال رموز الشجاعة في تاريخها، وبالتالي لم يسقط ضحية الفكر الإكزوتيكي الإغرابي الذي كان ضحيته كثير من الكتاب الذين جاءوا إلى الجزائر من أمثال موباسان وأندريه جيد وأوجين فرومينتان وألفونس جوجي وبودلير وشاطوبريون وغيرهم، لقد قاوم الاغتراب بالشعر وتصالح مع التاريخ ومع صناع التاريخ في البلدان المقهورة والمستعمرة، حتى وإن بدا رامبو في دفاعه عن قيم الحرية في شكل صعلوك إلا أنه كان منبع الصدق الشعري والتاريخي. لقد رفض رامبو نفاق الغرب الاستعماري، وهو ما جعله يبحث عن بديل لثقافة فرنسية وأوروبية تصالحت مع قيم الظلم والاستبداد والقتل والتهجير، فكان أن خاض تجربته مع الثقافة الإفريقية والإسلامية تجربة تستحق التوقف لما مثلته عليه من تأثير وتساؤل حتى أنه أطلق على نفسه اسم: abdoh Rinbo أي “عبد ربو” وهو تحريف لاسمه.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
32
  • فاطمة الزهراء

    اسمحلي سيدي ان اجيبك جميل ان تصل الفكرة لكن ستكون اجمل لو وصلت باحسن صورة من الفظ تصحيح الخطا جميل

  • بدون اسم

    تحيتي لأبناء الجزائر ومثقفيها...جهودكم خيرة في نشر الثقافة العربية مستفيدين من التمكن الممتاز في اللغة والثقافة الفرنسية..أنا أعلم أن الأديب الجزائري الكبير محمد ديب كتب اجمل أعماله بالفرنسية لعدم تمكنه من التعبير بلغته الأم ...(من ذاالذي يعلم ماسيحدث غدا)...ألا يستحق مثقفو الجزائر كل التقدير والاحترام ...؟ أما بعض الهنات والهفوات النحوية _رغم أهميتها_ فأرى أن لا ينظر لها نظرة الاستخفاف أبدا ..لأن الضليع بالنحو العربي قليل مع الأسف في زمن تغول الاستهلاك وتراجع الاهتمام بالكتاب والقراءة ....شكرا

  • سعيد

    و الله متعة و علم و درس في مقال الكاتب الكبير أمين الزاوي، سيدي أنت فخر الجزائر و علم من أعلامها الثقافية، أحييك و أقبل قلمك و أبقاك الله للجزائر و لثقافتها العميقة الصحيحة
    و سلامي لكم في الجزائر

  • سمير

    السلام عليكم أخي أمين ، الشكر موصول لك ، فعلى الرغم من أني أختلف معك في كثير من القضايا ،إلاّ ان مكانتك العلمية محفوظة ، وحبك للجزائر لا شكّ فيه، أرجو أن تصصح -نظرتك- إلى التراث الإسلامي قليلا وتوجه بوصلتك نحو الشرق .أككد لك أنك ستصير أكثر إبداعا وتميزا .
    أما فيما يخص الموضوع فهو جميل تستحق عليه الإشادة ،فهو دليل على سعة اطلاعك.

  • قرطا

    اتفضل يا السي مبروك

  • hossine Ghardaia

    السلام على الجميع شكرا دكتور على المواضيع وعلى التنقيب في التاريخ فما احوجنا الى دراسات جادة تمثل افكارا لذوي الدراسات العليا للبحث في المواضيع الغير مستهلكةوشكرا

  • ahmed

    نسيتم صلب الموضوع واهميته وذهبتم الى الاخطاء ,,,,, ان هذا الموضوع نادر يجب التوسع فيه وشكرا للدكتور على مجانية مطالعة كتاباته,

  • عبد القادر سماتي

    اسمح لي يا أخي صاحب التعليق رقم 20 أنك لم تفهم ما رمى إليه الدكتور أمين الزاوي، و الله أعلم، فهو يريد أن يقول إن الجزائر عامرة بالرموز التاريخية الخالدة كالأمير عبد القادر و يوغرطة و التي فرضت احترامها على الأجانب حتى من المستعمرين أنفسهم و الله أعلم، على كل أنا شخصيا استفدت من مقال الدكتور الزاوي بارك الله فيه و في كل المخلصين لثقافة و تاريخ الجزائر
    و السلام عليكم

  • رابحي

    ياأستاذ ويا أمين أرهطك أعز إليك من الجزائر

  • سعيد

    مقال هائل
    لم أفكر يوما أن الشاعر الفرنسي رامبو كتب عن الأمير عبد القادر
    شكرا للكاتب أمين الزاوي على هذا الاكتشاف
    إنك يا سيدي تنور القارئ بعلمك
    أردت أن أقول شهادتي هذه
    و السلام و رحمة الله و بركاته

  • عادل

    دائمااذا تعلق الأمر بالجزائر نجد أفذاذا وموسوعات وأناسا بلغوا من الموضوعية كل مبلغ يتجاهلون ويهمشون بلادنا لماذا؟انها غيرة العلماء من هذا البلد ورجالاته شكرا للأستاذ أمين المتألق دائما

  • جزائري بمونريال

    الكاتب الكبير أمين الزاوي أحييك يا أيها القلم السيال و الأسلوب البيان على هذا المقال و على كل مقالاتك التي سمحت لي الظروف بقراءتها هنا في مونريال بكندا، إنك فخر الثقافة الجزائرية، كثر الله من أمثالك يا حفيد البشير الإبراهيمي و أعترف لك بأنني أنسخ مقالاتك و أوزعها على كثير من الأصدقاء عبر الأنترنيت هنا في كندا، شكرا لكل ما تقدمونه يا دكتور الزاوي
    و السلام عليكم
    مواطن جزائر مهاجر

  • Belaid

    Azul Amkrane docteur Amine Zaoui, grand merci pour ce rappel du Jugurtha grande figure de l'histoire de l'Algérie berbere. franchement je lis achourouk à cause des articles de docteur Amine ZAOUI que j'aime bcp sa plume en arabe comme en français, surtout sa chronique "Souffles" dan le journal Liberté
    merci Mr Zaoui et bonne continuation

  • L'exotisme

    صحيح و إن كنت أعترف له في هذا المقال بأنه أتى بالجديد و هي ظاهرة فريدة في كتاباته. لذلك، و إكراما للكاتب، فأنني أتخلى عن حقي في الاستنكار من كلمة "الإكزوتيكية" التي آلمت عيني.

  • رابح

    قرأت المقال ثلاث مرات و قرأته زوجتي و ابنتي و قد تحدثنا كثيرا عن صورة يوغرطة عند كبار العالم من الأدباء و لكن للأسف الشديد نحن لا نعلم شيئا عن رموزنا التاريخية، فالشكر الجزيل للكاتب الفذ أمين الزاوي صاحب الجواهر في الإذاعة الذي عرفنا على جزء من تاريخنا المحترم كما يراه الكتاب و الشعراء الأجانب
    و السلام عليكم

  • Salim

    Si on a cinq écrivains à la taille de Mr Amine ZAOUI, la culture algérienne sera très honorée universellement. Je salue le courage intellectuel de notre grand écrivain Amine ZAOUI, et merci d'avoir évoquer le poète Rimbaud et son rapport à l'Algérie et l'Emir Abdelkader,

  • hocine

    اليس الافضل ان نفهم ماهو مضمون الكتابة بدل من النقاش على بعض الحروف .

  • بدون اسم

    أحييك دكتور أمين الزاوي على كتاباتك الشجاعة و الجديدة دائما التي تخرجنا من لغط السياسة و الفلكلور/ و الله أشعر بمتعة كبيرة حين قراءة مقالاتك حتى و إن كنت مرات أختلف معك في الرأي لكني أحترم دفاعك عن التنوير و إثارة النقاش و هو ما ينقصنا في حياتنا الثقافية التي ماتت و أصبحت زردات و فضائح
    و سلامي لك أديبنا و حفظك الله و أبقاك قلما لجريدة الشروق إلى جانب أقلام الرأي
    نعاس سفيان (القبة)

  • عبد الكريم

    اا
    مادام الأمر كذلك بالنسبة لفكتو ريغو فلو نسمي أكبر شارع يالعاصمة
    باسمه ..و لم يكون هذا الشارع /شارع فكتوريغو/ دليلنا الى السفارة
    الفلسطينية.

  • Amine Hkouider

    دائماَ أقرأ لدكتورنا الفاضل ما يخطه قلمه السيال. لا يهمني إن كان هناك خطأ إملائ أو مطبعي، المهم أنّ فكرته وصلت المتلقي. أرجو من الدكتور أن يتطرق إلى موضوع مهم" لماذا لا يزال البعض منا يصحح كلامنا: عربياً كان أم فرنسياَ؟"
    تحياتي الخالصة إليكم جميعاَ

  • عبد الله

    السلام عليكم و رحمة الله
    أعترف لك سيدي الدكتور أمين الزاوي بأنني أستاذ الأدب العربي و قد تخرجت من جامعة الجزائر و لم أكن أعرف يوما بهذه العلاقة المهمة التي تتحدث عنها و المتمثلة في علاقة الشاعر أرتور رامبو بتاريخ الجزائر و بالأمير عبد القادر خاصة، شكرا جزيلا لك و إنني سأبحث عن الكتاب لقراءته
    و شكرا لجريدة الشروق اليومي على نشر مثل هذه المقالات المفيدة و الهادفة بدلا من مقالات السب السياسي و الشتم و شكرا للكاتب أمين الزاوي

  • علي بن فتاشة

    كذلك قوله: وهو ابن الأربعة عشر سنة

    يقول الشاعر: النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن

  • مفتاح دليوح

    سلام عليكم
    ليت الأمر اقتصر على (صراحه) ولكنه كتب أيضا:
    (لم يتركوا بلدا وصلها)و(من قرية سبدو أحد أواخر قلاع جنود...) ونترك له وللغيورين عليه معرفة الخطإ وتصويبه، الأنكى من ذلك لو شهدته وهو يجلد نفسه ـ في معرض الكتاب مثلا ـ خارجا من جلده يرطن بالفرنسية يخاطب بها بني جلدته ..

  • hamid benamou

    تحياتي الى الدكتور امين الزاوي الذي يذكرنا دائما با فذاذ الادب الذين زرعوا بذور التساؤل فى الفكر البشري. شكرا

  • ahmed lotfi

    الى Bouzid de SEG ـ (algérie)

    لم انتقد الاستاذ و لكن فرحت وتمنيت ان اتعرف على هذه الغيورة على لغتها

  • Bouzid de SEG

    الى أحمد لطفي

    قد يخطئ الأستاذ سهوا.. تذكر أنه ليس بالمعصوم.. جل من لا يسهو و لا يخطئ.

    كم تلميذا صحح لأستاذه؟ هذا أمر وارد .. والوارد جدا أن ننبه الغافل. أليس كذلك؟ تحياتي للجميع

  • Bouzid de SEG

    مــــــا لنا و ما له؟

  • LAID BEN ABDERRAHMANE

    السلام عليكم شكرا لتوفيركم النسحة الورقية ولكن هذه الايام لا استطيع تحميل الا لليوم السابق فما الخلل يا شروق

  • ahmed lotfi

    من انت ايتها التي تصحح للدكتور اخطاءه الاملائية

  • ahmed lotfi

    من انت ايتها التي تصحح للدكتور اخطائه الاملائية

  • Fennec

    رامبو من الشعراء غير العاديين ومن الذين ارادوا الخروج عن الإعتيادي من بروتوكولات ودهن للملوك والأكل من أيدي ذوو البلاط، من أجمل ما قرأت قصيدة: "le bateau ivre" شعر رائع محزن وثوري شهواني و متوحش و عميق جدا

  • تلميذتك

    تحية طيبة اليك
    أستاذي الفاضل كتبت اطلق صراحه و الصحيح سراحه بالسين ظننت اول الامر ان الامر خطأ مطبعي ،لكنك عدت وكتبت الكلمة بالصاد....ه