-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المحكمة الدستورية الجزائرية.. واقع وآفاق (الجزء 1)

موسى بودهان
  • 3480
  • 1
المحكمة الدستورية الجزائرية.. واقع وآفاق (الجزء 1)

يرتبط وجود محكمة دستورية أو مجلس دستوري أساسا بمبدأ سمو وحماية الدستور وضمان احترامه من قبل الجميع، أفرادا ومؤسسات إن في جانبه الشكلي أو الموضوعي.. كما يرتبط بضبط سير وعمل ونشاط الهيئات والمؤسسات والسلطات العمومية من خلال الرقابات المختلفة “الدستورية، المطابقة، السياسية، الموافقة، والدفع بعدم الدستورية”. ومن هذا المنطلق تسعى الدول وهي تسن دساتيرها إلى إنشاء مؤسسة أو هيئة دستورية، اختلفت دساتير الدول بشأنها، فقد تنص على كونها هيئة ذات طابع قضائي “محكمة دستورية” أو على كونها هيئة ذات طابع سياسي “مجلس دستوري” مانحة إياها الصلاحيات والمهام والاختصاصات الدقيقة والكاملة في ممارسة هذه الرقابات المشار إليها أعلاه.

غير أن الأسئلة الواجب طرحها في هذا الصدد هي: كيف تعامل الدستور الجزائري، في آخر تعديل له، مع هذه المؤسسة أو الهيئة الدستورية؟ وما المقصود بالرقابات الدستورية وماذا عن الهيئات أو المؤسسات التي تقوم بها؟ وما هي أنواعها ونماذجها دوليا بصفة عامة وفي الجزائر بصفة خاصة؟ وما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراء إيجاد الآلية الدستورية الجديدة؟ وما هي تسميتها وما تعريفها؟ وماذا عن أهميتها وفائدتها؟ وما هو مركزها الدستوري وتكييفها القانوني؟ وما هي صلاحياتها ومهامها؟ ماذا عن تنظيمها الإداري وتأطيرها الهيكلي وكيف تعمل أو تسير؟ ما هي طبيعة علاقاتها مع سلطات الدولة، لاسيما رئيس الجمهورية والوزير الأول أو رئيس الحكومة، البرلمان برئيسيه ومجلسيه ونوابه وأعضائه وكذا المعارضة البرلمانية والقضاء “المحكمة العليا ومجلس الدولة” بل والمواطنين من خلال آلية الدفع بعدم الدستورية؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول الإجابة عن بعضها بالنحو التالي:

لقد عرف التعديل الدستوري الجزائري الأخير “تعديل نوفمبر 2020” إنشاء مؤسسة دستورية جديدة تحت مسمى المحكمة الدستورية تختص بالرقابة على دستورية القوانين حلت محل المجلس الدستوري، وقد جاءت هذه المؤسسة ضمن التزامات رئيس الجمهورية الـ54 وكذا سلسلة الإصلاحات المتنوعة التي قام بها على الكثير من المستويات والأصعدة من أجل إضفاء شرعية أكثر عليها وتفعيل مهامها واختصاصاتها.

مما لاشك فيه أن هذا التعديل الدستوري قد حمل في طياته الكثير من المستجدات لاسيما في مجال تكريس دولة الحق والقانون بكل موجباتها مثل حماية الدستور وضمان سموه وعلويته، والفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء، والديمقراطية والتعددية السياسية، والحقوق الأساسية والحريات العامة، الفردية والجماعية، وتحقيق العدالة والمساواة وغيرها، مع تقوية هذه المحكمة بصلاحيات أوسع واستقلالية أكثر من المجلس الدستوري الذي حلت مكانه حتى تزاول مهامها الرقابية والدستورية والقانونية والسياسية والقضائية والتفسيرية والاستشارية بكل سيادة، وبالتالي تكون فعلا ضامنة لسمو الدستور وحامية للحقوق الأساسية والحريات العامة وضابطة لسير وعمل ونشاط الهيئات والمؤسسات والسلطات العمومية.

التطورات الكبيرة والمتسارعة التي عرفتها الساحة الوطنية والدولية، تفرض استحداث مثل هذه المؤسسة أو الهيئة الجديدة “المحكمة الدستورية” لتكون بديلا حقيقيا للمجلس الدستوري في تثبيت آليات دولة القانون بجميع متطلباتها، على النحو المشار إليه أعلاه، خارج المؤسسات والهيئات الدستورية والقضائية، التقليدية منها والجديدة، أي سواء منها تلك التي كانت تقوم بها بعض المؤسسات القضائية التقليدية كالمحاكم العليا وغيرها في بعض الدول (أمريكا مثلا)، أو تلك التي تقوم بها مؤسسات الرقابة الدستورية والسياسية الجديدة المتخصصة “المجالس الدستورية” (أوروبا مثلا).

وإذا كان العديد من المختصين قد اختلفوا بشأن آليات عمل هذه “الهيئة”: هل من خلال رقابة دستورية قضائية تزاولها جهة قضائية صرفة “المحكمة العليا” كما هو الشأن مثلا في أمريكا؟ أم من خلال رقابة دستورية سياسية تقوم بها هيئة سياسية محضة “المجلس الدستوري” على غرار ما هو سائد مثلا في أوروبا وفرنسا تحديدا؟ وهل المجلس أحسن؟ أم المحكمة أفضل؟ كما اختلفوا بخصوص مهامها وصلاحياتها وأيضا بشأن طبيعة الرقابة المسندة لها (سياسية؟ أم قضائية؟ قبْلية “سابقة” “وقائية” أم بَعدية “لاحقة”) طبعا إلى جانب اختلافهم كذلك حول تسميتها وتركيبتها البشرية وتكييفها ومدة العضوية فيها وعلاقاتها والأشخاص المؤهَّلين لإخطارها وكذا تنظيمها وعملها.

قلت إذا كان هؤلاء المختصون مختلفين في هذه المسائل وغيرها على النحو المشار إليه آنفا، ولكل حججه ومبرراته، فإن السؤال الآخر المطروح في هذا الصدد هو: ألا يمكن البحث عن “طريق ثالث” أي عن مؤسسة أو هيئة أخرى ذات طبيعة مركبة أو مختلطة “سياسية، قضائية، دستورية، قانونية” مستقلة عن كافة السلطات والهيئات تسند لها صلاحيات الرقابة الدستورية والسياسية والقضائية والتفسيرية والقانونية على دستورية التعديلات الدستورية ومطابقة الاتفاقيات والقوانين والتنظيمات للدستور والفصل في الطعون المتعلقة بالأحزاب السياسية والانتخابات التشريعية والرئاسية وحل إشكالات ومنازعات الاختصاص التي قد تثور بين السلطات الثلاث وغيرها من الهيئات والمؤسسات حتى لا تطغى أو تهيمن أي منها على الأخرى أو تكون تابعة لها احتراما لمبدأ الاستقلال العضوي والتخصص الوظيفي الواجب التقيد به بل وإعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات المطلوب تجسيده مع محاسبة كبار المسؤولين في الدولة “رئيس الجمهورية والوزير الأول أو رئيس الحكومة” على غرار بعض الدول؟

هل من الضرورة والمصلحة الوطنية العامة إنشاء مثل هذه المؤسسة أو الهيئة الدستورية “المركبة” المتميزة عن سابقاتها “القضائية الصرفة” و”السياسية المحضة”؟. نطرح هذا التساؤل الكبير والهادف خاصة وأن الكثير من دساتير دول العالم، ومنها دساتير الدول العربية، لاسيما بعد موجة الربيع العربي التي اجتاحت معظمها، تحاول الآن الفصل في شأن طبيعة هذه المؤسسة أو الهيئة وفي صلاحياتها ومهامها وفي علاقاتها وفي مركزها الدستوري المتميز معلنة تراجعها عن المؤسسات والهيئات الحالية المجالس الدستورية لعيوبها ومساوئها المتنوعة قاصدة استبدالها بمحاكم دستورية بديلة “بصلاحيات جديدة” لمحاسنها وإيجابياتها الكثيرة.

ولا شك أن استحداث مثل هذه المؤسسات البديلة “المحاكم الدستورية بصلاحيات “جديدة” يتساوق مع الآثار الناتجة عن اتساع رقعة تدخل السلطات الثلاث للدولة، لاسيما التنفيذية منها “الحكومة”، بهيئاتها وإداراتها، بمؤسساتها وجماعاتها المحلية، بمنشآتها وأجهزتها، بدواوينها ومرافقها إجمالا، في اختصاصات وصلاحيات وأعمال ونشاطات بعضها البعض.. إلى جانب مساسها- في أحيان كثيرة- بمبدأ الاستقلال العضوي والتخصص الوظيفي الناتج بدوره عن مبدإ الفصل بين السلطات وتكريس الحقوق والحريات بمبرر الحفاظ على السكينة العامة والمصلحة العامة والأنظمة العامة بصفة شاملة والتي تشكل غاية نشاطات أو أعمال أو تصرفات أو قرارات أو أحكام هذه السلطة ومناطها والتي تدور حولها مشروعيتها أو عدم مشروعيتها.

وقد كان الأمر ملحًّا وضروريا لاتخاذ مواقف معينة لكبح جماح أي سلطة وردها إلى الطريق السوي إذا ما انحرفت عند ممارستها للمهام والصلاحيات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية أو الإدارية المسندة لها سواء بمقتضى الدستور أو بموجب القانون. وعزز من هذا الإلحاح وهذه الضرورة أولا زيادة شعور الأفراد بعدم كفاية الوسائل والآليات التقليدية “المحاكم العادية ومجالس الدولة وخاصة المجالس الدستورية” في الرقابة على أعمال المؤسسات والهيئات والإدارات التي تمارس مثل هذه الاختصاصات والصلاحيات والمهامّ حماية للحقوق والحريات الفردية والجماعية من جهة، وثانيا العيوب التي تكتنف تلك الوسائل والآليات من تعقيد في إجراءاتها وبطء في سيرها وارتفاع في تكاليفها الباهظة من جهة أخرى.

ومن النظم الجديدة “البديلة”- والتي أثبتت نجاعتها في رقابة دستورية المعاهدات والاتفاقيات الدولية ومشاريع واقتراحات القوانين “التشريعات والنظم” حماية لعلوية الدستور وتكريسا لدولة القانون مع ضمان احترام السلطات والمؤسسات والهيئات والأجهزة والمرافق المذكورة آنفا لصلاحيات ومهام واختصاصات بعضها البعض، ووقف تجاوزات الإدارة وحماية الحقوق والحريات وتحقيق العدالة والمساواة والفصل في المنازعات الخاصة بالأحزاب السياسية والانتخابات التشريعية والرئاسية والاستفتاءات ومحاكمة كبار مسؤولي الدولة “رئيس الجمهورية والوزير الأول أو رئيس الحكومة”، نجد المحكمة الدستورية في ثوب آخر وبصلاحيات جديدة من خلال ممارسة مهام الرقابة الدستورية، بشتى أنواعها وآلياتها السياسية والقضائية والدستورية والإدارية والقانونية، السابقة واللاحقة مما قد نشير إليه فيما بعد ومن باب المقارنة لا أكثر.

تعريف الرقابة الدستورية

كثيرا ما يقصد فقهاء القانون الدستوري بالرقابة الدستورية، في تعريفهم لها، تلك الإجراءات والهيئات والمؤسسات، القضائية والسياسية التي تستحدث خصيصا لغرض تجسيد دولة القانون وبهدف ضمان حماية النظام الدستوري وسيادة القانون والفصل بين السلطات واحترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية في دولة ما. ويقصدون بالهيئات القضائية، الهيئات المؤسسة بموجب الدستور والقانون، ولها اختصاص الفصل في الاعتراضات والمنازعات بالاستناد إلى القانون والمعايير القانونية والاعتماد على القواعد الإجرائية التي أقرَّها القانون، على أن تصدر، بعد ذلك، قراراتٌ باتَّة ونهائية في موضوع النزاع، تكون لها قوة إلزامية في نطاق مجال اختصاصها الإقليمي، والشخصي والزمني على كل السلطات العمومية الوطنية، والجهات الأخرى المعنية. وتتألف هذه الهيئات من أعضاءٍ يكفل القانون استقلاليتهم الوظيفية، والشخصية تجاه السلطات العمومية والخاصة.

عرف التعديل الدستوري الجزائري الأخير “تعديل نوفمبر 2020” إنشاء مؤسسة دستورية جديدة تحت مسمى المحكمة الدستورية تختص بالرقابة على دستورية القوانين حلت محل المجلس الدستوري، وقد جاءت هذه المؤسسة ضمن التزامات رئيس الجمهورية الـ54 وكذا سلسلة الإصلاحات المتنوعة التي قام بها على الكثير من المستويات والأصعدة من أجل إضفاء شرعية أكثر عليها وتفعيل مهامها واختصاصاتها.

وفي هذا الإطار يقول هؤلاء الفقهاء المختصون في القانون الدستوري: “إن المقصود برقابة دستورية التشريعات وقانونية الأنظمة ضمانا لعلوية الدستور وتطبيقا لمبادئ دولة القانون هو التقيد الكامل والانصياع التام بالحدود التي رسمها الدستور لكل سلطة”. مردفين أنه لتأمين ذلك اقتضى الأمر: إما إسناد المهمة للقضاء العادي كما هو الحال في أمريكا، حيث تتولى المحكمة العليا ذلك باجتهاد منها حتى قبل وجود أي نص دستوري يجيز لها ممارسة الرقابة على دستورية القوانين، وإما إسنادها لهيئة قضائية خاصة، وذلك باستحداث هيئة متميزة “البعض يسميها مجلس دستوري والبعض يسميها محكمة دستورية ” تتولى الرقابة على ممارسات الجهات المعنية (السلطات الدستورية الثلاث) بوضع القوانين وتطبيقها وتنفيذها والفصل في جميع الخلافات والمنازعات القضائية كي لا تخالف الدستور”.

عزز من هذا الإلحاح وهذه الضرورة أولا زيادة شعور الأفراد بعدم كفاية الوسائل والآليات التقليدية “المحاكم العادية ومجالس الدولة وخاصة المجالس الدستورية” في الرقابة على أعمال المؤسسات والهيئات والإدارات التي تمارس مثل هذه الاختصاصات والصلاحيات والمهامّ حماية للحقوق والحريات الفردية والجماعية من جهة، وثانيا العيوب التي تكتنف تلك الوسائل والآليات من تعقيد في إجراءاتها وبطء في سيرها وارتفاع في تكاليفها الباهظة من جهة أخرى.

ويقول آخر: “إن الاعتراف بسمو الدستور وإقرار العمل بالرقابة على دستورية النصوص القانونية كلها، التشريعية والتنظيمية من شأنه تمكين الأنظمة من اختيار نماذج أو أنماط أو مؤسسات رقابية مختلفة وفقا لما يناسبها وبكل حرية”، مضيفين: “إن الدساتير، وهي رمز دولة القانون تحتاج إلى ضمانات وإلا بقيت مجرد حبر على ورق، ومن هذه الضمانات إما “حمايتها دستوريا وسياسيا” كما هو الأمر في دساتير بعض الدول وإما “حمايتها قضائيا وقانونيا” كما هو الأمر في دساتير دول أخرى”. ومؤكدين على أن هذا هو الواقع الذي فيه خياران لا ثالث لهما. إذ رغم تنوع تجارب الدول فيما يخص الرقابة الدستورية بأشكالها المختلفة، إلا أنه يمكن تصنيفها، حسب لويس فافرو إلى نموذجين رئيسيين:

أ- النموذج الأمريكي أو “النمط اللا مركزي” الذي نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1803 تاريخ إصدار المحكمة العليا قرارها في قضية “ماربوري ضد مادسون”، والذي خول كل الجهات القضائية، بما فيها العادية، صلاحية النظر في مدى تطابق القانون مع الدستور. ثم انتشر في دول أخرى مثل كندا، اليابان، المكسيك…

ب- النموذج الأوروبي أو “النط المركزي” الذي ظهر في النمسا عام 1919، حيث أسس فقيهها المعروف دوليا “كيلسن هانس” صاحب نظرية “البناء الهرمي للقانون”، أول محكمة دستورية، ثم انتشر هذا النموذج فعرفته دول أوروبا والعديد من دول قارات أخرى لاسيما منها تلك التي عرفت انتقالا ديمقراطيا مثل دول أوروبا الشرقية، جنوب إفريقيا، مصر، تونس، المغرب، وسوريا…

ونظرا لكون العديد من الدساتير قد ذهبت في هذين النموذجين مذاهب شتى، كل دستور، تقريبا أخذ على طريقته الخاصة بهذا النموذج أو ذاك، “أحيانا باختيار هذا دون ذاك وأحيانا بالمزاوجة بين هذا وذاك” واعتبارا لكل ذلك وغيره فإننا سنستعرضهما، تفصيلا ومتبوعين بنموذج ثالث على النحو التالي:

يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عبيدين سليمان

    ارجو تكملة المقال حول المحكمة الدستوىة المنشور بالجريدة وشكرا