الرأي
في الذكرى الـ58 لنظم أبياته..

النّشيد الوطني الجزائري.. هل يمكن إعادة كتابته؟

سلطان بركاني
  • 23661
  • 138

النّشيد الوطنيّ عند كثير من دول العالم يمثّل النّظْم البشريّ الأوجز والأكثر تعبيرا عن هوية البلد ومقوّمات الشّعب، وعن ماضيه وحاضره ومستقبله الذي يرنو إليه، ولذلك نجد النّشيد الرّسميّ لدولة الاحتلال الإسرائيليّ الذي يحمل عنوان “هاتيكفاه” أي: “الأمل”، يشير إشارات واضحة إلى يهودية الدّولة وإلى الحلم الأبديّ الذي يعيش لأجله الصّهاينة ويتحرّقون لتحقيقه، فتقول كلماته: طالما في القلب داخلَنا، روح يهوديّة ما زالت تتحرّق شوقا، وما دام صوبَ نهاية الشّرق، عين ما زالت تتطلّع صوب صهيون؛ فأملنا لم ينتهِ بعد، أمل عمره ألفي عام، أن نصبح أحرارا في أرضنا، أرض صهيون وأورشليم (القدس).

وهكذا النّشيد الإيرانيّ الذي اعتُمدَ بعد نجاح الثّورة الخمينية، يعبّر عن هوية الدّولة الإيرانية الفارسية المعتزّة بانتمائها إلى “بهمن” أحد أكثر ملوك الفرس شأنا وأفضلهم تدبيرا، والمصطبغة بالصّبغة الشّيعية الإمامية، حيث تقول كلماته: «بزغت من الأفق، شمس الشّرق، تلك التي تستنير بها أبصار المؤمنين بالحقّ. “بهمن” هو رمز إيماننا، ونداؤك أيّها الإمام، للاستقلال والحرية، منقوشٌ في أرواحنا. أيها الشهداء، لا زالت صيحاتكم تملأ مسامع الزّمن، فلتبقيْ خالدةًً وأبية، أيتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية». 

وبين الدّول العربيّة المسلمة، نجد كثيرا من الدّول يعبّر نشيدها الوطنيّ في عبارات موجزة عن هوية البلد ومقوّمات شعبه، فتقول كلمات النّشيد القطريّ مثلا: «قسما قسما قسماً بمن رفع السّماء *  قسماً بمن نشر الضّياء، قطَرُ ستبقى حرّة * تسمو بروح الأوفياء، سيروا على نهج الألى سيروا * وعلى ضياء الأنبياء، قطر بقلبي سيرة * عزّ وأمجاد الإباء، قطر الرّجال الأولين * حماتنا يوم النّداء، وحمائم يوم السّلام * جوارح يوم الفداء».

وهذا النّشيد يتناغم في مقدّمته مع النّشيد الجزائريّ الذي تبدأ كلماته بالقسم، ولكنّ النّشيد القطريّ يقسم بالخالق، في حين يقسم النّشيد الجزائريّ بالمخلوق، وهو ما نبّه كثير من العلماء إلى أنّه يناقض تعاليم دين الإسلام الذي يمثّل الدّين الرّسميّ للبلد حسب المادّة الثانية من الدّستور.

وإن كان النقّاد يثمّنون اهتمام النّشيد الوطنيّ بالثّورة التّحريرية المباركة، ودعوته إلى نقل مآثرها للأجيال، إلا أنّهم يأخذون عليه طوله الذي لا يضاهيه فيه إلا النّشيد الوطني الفرنسيّ “لامارسييز”.

كما أخذ بعض النقاد على النّشيد خلوّه من إشارات صريحة إلى هوية البلد، وإلى مقوّمات شعبه المتمثّلة في الإسلام والعربيّة والأمازيغيّة، على خلاف الأبيات المشهورة التي كتبها إمام النّهضة الإصلاحية عبد الحميد بن باديس، وأشار فيها إلى أنّ الشّعب الجزائريّ مسلم وإلى العروبة ينتسب، وأنّه لم ولن يحيد عن أصله.

النّشيد الوطنيّ الجزائريّ وإرهاصات مؤتمر الصّومام

من المعروف تاريخيا أنّ النّشيد الوطنيّ الجزائريّ كتبه شاعر الثّورة مفدي زكريا رحمه الله في سجن بربروس، بطلب من عبّان رمضان في الـ25 أفريل 1956م، أياما قلائل قبل انعقاد مؤتمر الصّومام، الذي كان عبان رمضان أحد مهندسيه، وهو المؤتمر الذي رأى غير واحد من أعضاء مجموعة الـ22 التاريخية أنّه جاء للالتفاف حول بيان أوّل نوفمبر الذي أكّد أنّ الهدف الأوّل للثّورة هو “إقامة الدّولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السّيادة في إطار المبادئ الإسلاميّة”.

ولعلّ هذا ما يفسّر خلوّ النّشيد الوطنيّ من أيّ إشارة إلى أهمّ هدف نصّ عليه بيان أوّل نوفمبر، ما يؤكّد أنّ عبّان رمضان يكون قد وضع لمفدي زكرياء –الشّاعر المزابي المتشبّع بالقيم الإسلاميّة والعربية- الإطار العامّ لكلمات النّشيد الذي يريده.

بومدين أمر بإعادة كتابة النّشيد الوطنيّ

جرى اعتماد النّشيد الذي كتبه مفدي زكريا نشيدا رسميا للجزائر سنة 1963م في عهد الرّئيس أحمد بن بلّة، وبعد عام من الانقلاب الذي نفّذه الرّاحل هواري بومدين على بن بلّة قرّر إعادة كتابة النّشيد الوطني الجزائريّ      سنة 1966م، على خلفية خلاف نشأ بينه وبين الشّاعر مفدي زكرياء، وأوعز إلى مستشاره مولود قاسم نايت بلقاسم بإجراء مسابقة للشّعراء الجزائريين لكتابة كلمات نشيد آخر، ولكنّ مولود قاسم استغلّ علاقته الوطيدة بمفدي زكريا؛ وأقنعه بالمشاركة في المسابقة، التي استطاع أن يفوز فيها بنشيد “قسما”، وهو ما جعل الرّئيس بومدين يرضخ للأمر الواقع، ويوافق على الاستمرار في اعتماد النّشيد.

دول عربية وغربية تعيد كتابة أناشيدها الوطنيّة

عمدت أكثر من دولة غربية وعربيّة إلى تغيير نشيدها الوطنيّ تماشيا مع تغيّر النّظم وتبدّل الأوضاع، ولعلّ من أبرز الدّول الغربية التي غيّرت نشيدها الرّسميّ، تبرز أستراليا التي أعادت صياغة كلمات نشيدها الوطني سنة 1984م.

أمّا في أوساط الدّول العربية، فقد شهدت ليبيا بعد ثورة العقيد معمّر القذافي تغييرا لنشيدها الوطنيّ سنة 1969م، وبعد الثّورة الليبية الأخيرة التي أطاحت بنظام القذافي، أعاد المجلس الوطنيّ الانتقالي العمل بالنّشيد الأوّل الذي اعتمد سنة 1955م إبان الفترة الملكية.

وفي مصر تمّ تغيير النّشيد الوطني سنة 1952م بعد الإطاحة بالنّظام الملكيّ، وغيّر مرّة أخرى سنة 1960م ليتحوّل إلى سلام وطنيّ، ثمّ أعيدت صياغته مرّة ثالثة سنة 1979م وتمّ اعتماد النّشيد المعروف حاليا: «بلادي بلادي بلادي * لك حبّي وفؤادي… »

وفي العراق أكّدت لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان العراقي الحاليّ أنّ العديد من المثقفين والشّعراء اقترحوا أن تكون القصيدة التي كتبها الشّاعر الرّاحل محمّد مهدي الجواهري سنة 1947م مضمونا للنّشيد الوطني السّادس منذ تأسيس الدولة العراقية، كونها توضّح هوية العراق ووطنية الفرد العراقي، وقد صوّت البرلمان العراقي على هذا الاقتراح.

إعادة كتابة النّشيد الوطنيّ الجزائريّ هل ستظلّ من الطّابوهات؟

في الجزائر، وباستثناء الخطوة التي أقدم عليها الرّئيس الرّاحل هواري بومدين سنة 1966م، فإنّ إعادة كتابة النّشيد الوطنيّ لم تطرح للنّقاش في الأوساط الثّقافية والسّياسيّة، ولعلّه قد آن الأوان لطرح هذه المسألة لتأخذ حقّها من الأخذ والردّ، خاصّة وأنّ الجهات الرّسمية قد أعطت الضّوء الأخضر لكسر كثير من الطّابوهات التي لم يكن أوّلها طابو قانون الأسرة الذي سُمح لبعض الأطراف بطرحه للنّقاش بكلّ جرأة، دون مراعاة للحساسية التي يمثّلها للشّعب الجزائريّ المسلم.

ومن يدري لعلّ الأوساط الدينيّة والثّقافية والسّياسية تصل إلى كلمة سواء لفتح المجال أمام المواهب الشّعرية الجزائرية لجيل ما بعد الاستقلال، للتّنافس في كتابة نشيد وطنيّ جديد يجمع في أبيات قليلة بين تمجيد ثورة التّحرير المباركة والتغنّي بالماضي التّليد لهذا البلد، وبين التّأكيد الواضح على التشبّث بمقوّمات هذا الشّعب المتمثّلة في الإسلام والعربية والأمازيغية؛ فالجزائريون ليسوا أقلّ حرصا على ثوابتهم ومقوّماتهم من الصّهاينة، ولا من الإيرانيين والقطريين وغيرهم من المسلمين والعرب الذين عبّروا في أناشيدهم الوطنيّة عن هويتهم ووجهتهم.

مقالات ذات صلة