-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 1/3

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 1/3

تلقّيتُ الدعوة لحضور فعاليات ملتقى علمي من تنظيم السيد سي الهاشمي عصاد الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية، وتحت إشراف السيد ساعد شنُّوف، والي ولاية بني عباس، احتضنته بلدية إڤلي، وانعقد ما بين 21 فيفري- 24 فيفري2022م، احتفاء باليوم الدولي للغة الأم، المتزامن مع أسبوع اللغات الإفريقية.

حضرتُ الملتقى بصفتي “ضيف الشرف” دون تقديم مداخلة، لكنني شاركت في النقاش العلمي الذي كان يعقب كل محاضرة. واستثمرت حضوري في الملتقى في التواصل مع المواطنين في كل البلديات والقصور التي حللنا بها، من أجل الإلمام بتاريخ ولاية بني عباس العريق، خاصة في بلدية إڤلي التي احتضنت فعاليات الملتقى. وكان الانطلاق من مطار هواري بومدين بالعاصمة في اتجاه مطار تيميمون يوم الأحد صباحا. ثم قطعنا المسافة بين تيميمون وبني عباس (حوالي 400 كلم) برّا  بواسطة حافلة، تمتّعت خلالها بمناظر طبيعية متميّزة مغايرة لما ألفته العين في الشمال.

نبذة مختصرة عن ولاية بني عباس

   ظهرت ولاية بني عباس إلى الوجود بموجب التقسيم الإداري الجديد الذي أضاف عشر ولايات في الجنوب الكبير، وتقع جنوب ولاية بشار التي انفصلت عنها. تبلغ مساحتها حوالي مائة ألف كلم2، يقدّر عدد سكانها بحوالي 64000 نسمة، يتوزّعون على 6 دوائر و10 بلديات. لها حضارة عريقة مرتبطة بوادي الساورة، على غرار الحضارات الغابرة المرتبطة بالأنهار في العالم،  كحضارة بلاد ما بين النهرين، وحضارة الفراعنة في وادي النيل، والحضارة الإفريقية في وادي النيجر، وغيرها. ولعل ما يؤكد عراقتها وعمقها الذي يمتدّ إلى عهود ما قبل التاريخ، وجود قبور يقدّر عمرُها بألوف السنين، ونقوش صخرية في منطقة “مرحومة” التي تعود حسب بعض الدارسين إلى العصر الحجري الحديث. وتؤكد أسماء الأماكن والتضاريس والقصور، انتساب هذه الحضارة العريقة إلى الأمازيغية. وبرأي بعض الدارسين، فإن أطلال القصر الموجود قرب تَامْتَرْتْ، هو أقدم قصر (أغْرَمْ) في المنطقة.

وفي القرون الوسطى استقرت قبيلة بن حسان (من بني عقيل) العربية في بني عباس لبعض الوقت، قبل أن يرحل أبناؤها إلى الساقية الحمراء ومنها إلى موريتانيا. غير أن القول المشهور في تأسيس بلدة بني عباس، يرتبط بوصول شخصية سيدي عثمان المدعو “الغريب” إلى المنطقة، وبفضل بركته – تضيف الرواية- انفجرت عيونٌ دافقة ساهمت في نمو الأشجار والأعشاب والمراعي، الأمر الذي استقطب هجرة الكثير من العائلات من أماكن مختلفة، خاصة من الساقية الحمراء (المهدي بن يوسف).

لعل ما يؤكد عراقتها وعمقها الذي يمتدّ إلى عهود ما قبل التاريخ، وجود قبور يقدّر عمرُها بألوف السنين، ونقوش صخرية في منطقة “مرحومة” التي تعود حسب بعض الدارسين إلى العصر الحجري الحديث. وتؤكد أسماء الأماكن والتضاريس والقصور، انتساب هذه الحضارة العريقة إلى الأمازيغية.

أما الاستعمار الفرنسي فقد وصل إلى بني عباس في مطلع القرن العشرين. وكان الأب شارل دو فوكو  قد أقام بها بعض الوقت (1901-1904م)، بنى فيها منزلا، وخصّص حجرة للصلاة من أجل تنصير الأهالي، واشترى بستانا كان يشتغل فيه. ولا يزال بيته موجودا، يقيم فيه بعض الآباء البيض الذي اندمجوا في المجتمع، وبه شبه متحف يحتوي على آثاره، منها مخطوط “قاموس ترڤي- فرنسي”. كان الأبّ شارل دو فوكو ظهيرا للضابط الفرنسي “لابيرين” الذي قام بتوسيع الاستعمار الفرنسي في صحراء الجزائر. ونظرا لضيق الوقت فإنني لم أتمكّن من زيارة هذا المكان.

ارتبط وجود ولاية بني عباس بوادي الساورة، الذي ينطلق من مدينة “إڤلي” شمال بني عباس حيث يلتقي وادي ڤير بوادي زوزفانة، ثم يتجه نحو أعماق الصحراء إلى أن يصل إلى منطقة بوده بمنطقة أدرار. وكان في الماضي يشكّل عصب الحياة، ومصدر الرزق لسكان المنطقة، يوفّر لهم الماء ويسقي بساتينهم، ويصطادون فيه الأسماك (إسلمان بالأمازيغية)، وأكثر من ذلك كانوا يستعملونه للتنقل ولنقل البضائع بواسطة القوارب والسفن. وإذا كان المؤرخ اليوناني قد وصف مصر في القديم بكونها “هِبة النيل”، فإن بني عباس هي بمثابة هِبة وادي الساورة، لذا لُقّبَتْ بـ”جوهرة الساورة”. والجدير بالذكر أن مياه الأودية في بني عباس قد شحّت بعد بناء المغرب سلسلة من السدود على الروافد القادمة من أراضيها. ومن الفيضانات الخطرة التي أهلكت البلاد والعباد، تلك التي حدثت سنة 2008م. وعلمتُ من الصحفي عبد الحليم أرَاوْ الحاضر في الملتقى أن الرحالة حسن الوزّان المدعو “ليون الإفريقي” قد زار  منطقة الساورة في القرن السادس عشر.

البيئة الصحراوية

رغم أن قطع المسافة بين مطار تيميمون وولاية بني عباس برّا كان شاقا، فقد شفع لي الاستمتاع بجمال البيئة الصحراوية المتميّزة بشساعة المساحة من جهة وبقلة الكثافة السكانية. قطعنا مئات الكيلومترات دون أن نمرّ بحواضر أو تجمعات سكانية، وكانت مناظر السهول الرملية والهضاب الصخرية تمتد على مدى البصر. شاهدنا أودية وبحيرات جافة نادرا ما تجري فيها المياه بسبب قلة الأمطار، وتتراءى فيها للناظر بقايا أملاح أحيانا، وبعض الأعشاب والشجيرات أحيانا أخرى. وكان الطريق الذي سلكناه من تيميمون إلى بني عباس معبّدا في حالة جيّدة، به خطوط بيضاء وعلى حوافه لافتات قانون المرور ترشد المسافرين، ويذكّر بعضها سائقي السيارات والشاحنات بضرورة التزام اليقظة، لأن المنطقة تعجّ بالجِمال. كما لاحظت وجود أعمدة كهربائية على امتداد الطريق، توصل الكهرباء إلى تجمُّعات سكانية بعيدة.

كنّا نصادف من حين إلى آخر عددا من الجِمال ترعى سائمة في الفلوات، وقيل لنا إنها تقطع مسافاتٍ بعيدة بحثا عن الكلأ، ثم تعود إلى موطنها. وتتمايز عن بعضها البعض بواسطة “الوسم” الذي يختاره كلّ مالك لقطيعه. غير أن تركها على هذه الحالة، يؤدي أحيانا إلى حوادث مرور مميتة، وقد شاهدتُ جثة جمل على حافة الطريق. ومن المظاهر العمرانية القديمة التي جلبت انتباهي وأنا في الحافلة، كثرة أضرحة أولياء الله الصالحين المنتشرة على الروابي.

حفاوة الاستقبال

عند وصولنا إلى ولاية بني عباس حظينا باستقبال حار من طرف السلطات المحلية (الوالي/ رئيس المجلس الولائي/ رؤساء الدوائر/ رؤساء البلديات/ أعضاء المجلس الوطني الشعبي)، يليق بمقام المشاركين في الملتقى. ورغم وصولنا المتأخر (في حدود وقت صلاة العصر)، فقد وجدنا مأدبة الغداء في انتظارنا في فندق “الريم” الجميل، الذي نزل به المشاركون في الملتقى، وشَارَكَنَا فيها السيّد الوالي ساعد شنوف والسيد قندوسي تهامي رئيس المجلس الشعبيّ الولائي وغيرهما من ممثلي السلطات المحلية. أما العَشاء فكان من كرم “الزاوية الكبيرة” ببلدية كرزاز، العامرة بطلبة القرآن. وقد أحسن شيخُها وفادتَنا. وبعد تناول العشاء طلبتُ منه الدعاء للأستاذ المجاهد محمد الصالح آيت الصدّيق الذي أعياه المرض، فلبّى الطلب مسرورا.

بقدر سرور السلطات المحلية والمواطنين بالملتقى، فقد سُرِرتُ بدوري أيضا أيّما سرور بهذه الرحلة العلمية التي مكّنتني من التعرف على جزء هام من وطننا الشاسع، ومن الاحتكاك بأهله الطيّبين الأكرمين. وقد انبهرتُ بأمور كثيرة منها بساطة الحياة، وتواضع الناس المتميّزين بالبشاشة والكرم وحبّ الوطن والتعلق بوَحدته المتماسكة. وسُرِرتُ أيضا بحفاوة الاستقبال الرسمي من طرف السلطات المحلية وأخصّ بالذكر السيد ساعد شنوف والي الولاية عاشق الثقافة، المتوّج بتاج التواضع، والسيد قندوسي تهامي رئيس المجلس الشعبي الولائي الذي ينضح بالحيوية والنشاط، والسيد رئيس دائرة بني عباس، ورؤساء البلديات ونواب البرلمان وممثلي المجتمع المدني والمواطنين والسلطات الأمنية.

يتبع..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!