-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثرثرة صاخبة في محاريب الصلاة!

ثرثرة صاخبة في محاريب الصلاة!

أعتذر في بداية هذا المقال إلى الأديب الراحل الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ لأني استعرت من روايته الشهيرة (ثرثرة فوق النيل) تلك عنوانها الحلو، ذلك أني قرأتها في عنفوان شبابي صحبة العشرات من رواياته وقصصه الشيقة: (السراب، بيت سيء السمعة، خمارة القط الأسود، بنسيون ميرامار، قصر الشوق، بين القصرين، اللص والكلاب، السكرية، الهارب..)، وغيرها من القصص والروايات لكتّاب ذلك العصر الشهيرين، إذ كانت القراءة هي الحافز والعامل والمتغير الأساسي والوحيد للنبوغ والارتقاء في حياة جيلي، الذي يؤمن بأثر ودور الأدب في تنمية حسّ وقلم الكاتب، وفاعليته في توسيع ثروة وخيال الكاتب، ولو كان من المتخصصين في علوم الشريعة التي تتسم موضوعاتها بالانضباط والتركيز والاقتصاد، فأنا أقرأ الأدب بكل أنواعه وألوانه، وهو ما ميزني عن سائر المشتغلين بالعلوم الدينية الذين تتميز كتاباتهم بالحرفية والانضباط وافتارها للسيولة والتنوع.

من خلال معرفتي العلمية بنوعية المصلين وسنهم، فقد أفضت نتائج الدراسة إلى أن 75% منهم  من كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم السبعين من العمر، وإن جلهم بل كلهم من المتقاعدين عن العمل، أي ممن لا شغل لهم سوى شراء الجريدة يوميا ثم الارتباط بالمسجد عبر سائر الصلوات. ولقد شاهدتهم حتى في صلوات الصبح بين الأذان الأول والثاني يتكلمون فيما بينهم اثنان اثنان أو ثلاثة وهكذا.

ولسرد هذه المقدمة الأدبية مكانتها ودورها وأثرها عند ذوي الأفهام والهمم الناهضة في اقتراح العلاج الناجع لهذه الظاهرة السلبية، التي فتتت وأكلت كالأِرَضة فاعلية مؤسساتنا المسجدية، وأحالتها إلى مجرد أماكن إضافية للترويح والتسلية وتمضية الوقت.. وجب على القراء فهمُها واعتبارها جزءًا مهمّا من الحل، كونها تتعلق بنوعية الفرد الذي سيقبل على التدين وارتياد المساجد وهو مترع بفنون القراءة والأدب.

والمسألة التي أنا بصدد طرحها ومعالجتها هي ظاهرة الثرثرة والحديث والتناجي في المساجد قُبيل وبُعيد الصلوات، إذ تستحيل المساجد إلى فضاء ترفيهي عام، ومتنفس تسلوي صاخب، مليء بالدمدمة والهمهمة والصراخ والضجيج، ما يُعكر صفو الصلاة على المصلين، وصفاء الذهن لطوائف القراء والتالين،  وصموت قنوت وإخبات الذاكرين.. بحيث إن دخلت مسجدا من مساجد القطر الجزائري  طالبا للخلوة والسلوة والجلوة تجد نفسك في مكان أشبه بالمقاهي والمنتزهات والمقاصف.. وتتساءل بحيرة وذهول قائلا: هل أنا في مسجد؟ أم في مقهى؟ أم في وسط عامّ؟ وهل أنا في بيت من بيوت الله حقيقة؟

وهنا وجب أن نتوقف قليلا للحظات تفكير عميق لتفكيك عناصر المشكلة التي باتت لا تجد لها حلا حتى مع نهي الأئمة صراحة، وحشدهم الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين والسلف الصالح من الأمة في هذه المسألة.. ومع صدحهم ومناشدتهم بحرمة اتخاذ بيوت الله فضاءاتٍ للثرثرة والصخب والحديث والتشويش على المصلين والتالين الآخرين، وتحويل بيوت الله لغير ما وُضعت له.

والحقيقة أني جابهتُ هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية والخطيرة يوم أن كنت إماما متطوعا في مسجد سلمان الفارسي بتبسة سنوات 2005-2010م، وحاولت علاجها بشتى السبل العلمية والودية والوعظية والدعوية.. ولكني فشلت لاعتبارات كثيرة، ولأنها مشكلة كبيرة ومعقَّدة وملتوية وضاربة الجذور.. وهي مشكلة وظاهرة أكبر مني ومن كل الأئمة والمفتين، كونها تتعلق بتربية شعب، وبثقافة أمَّة، وبأخلاق مجتمع، وبآداب أفراد، وسلوكات جماعات.. وهو أمرٌ يصعب على خطاب الوعظ والإرشاد المسجدي أن يحتويه فضلا على أن يحجِّمه ويقضي عليه.

وبعد وضعي للظاهرة موضوع الملاحظة العلمية والفهم والفرضيات والتحليل والاستقراء والتجميع والنظر والاستدلال والتجريب.. تبين لي أنها مكونة من الأركان التالية:

1 – ركن المصلين ونوعيتهم وسنهم.

2 – ركن ثقافة وأخلاق وتربية المصلين.

3 – ركن مفهوم ومكانة المسجد.

4- ركن وظيفة ومهام الإمام.

ولنحاول الآن تقديم نتائج الدراسة التي قمنا بها لتفكيك هذه الظاهرة السلبية والتعرف على المتسببين الرئيسيين فيها، وتمت المعالجة وفق مناهج البحث، وكانت النتائج التالية:

1- بالنسبة للركن الأول فمن خلال معرفتي العلمية بنوعية المصلين وسنهم، فقد أفضت نتائج الدراسة إلى أن جلهم أي ما يعادل نسبة (75%) منهم  من كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم السبعين من العمر، وإن جلهم بل كلهم من المتقاعدين عن العمل، أي ممن لا شغل لهم سوى شراء الجريدة يوميا ثم الارتباط بالمسجد عبر سائر الصلوات. ولقد شاهدتهم حتى في صلوات الصبح بين الأذان الأول والثاني يتكلمون فيما بينهم اثنان اثنان أو ثلاثة وهكذا..

وقد نتجت هذه المشكلة بالنسبة إليهم من كونهم أصدقاء قدماء يعرفون بعضهم منذ سنين طويلة، أو عملوا مع بعضهم في قطاعات واحدة، وتقاعدوا مع بعضهم، بل منهم من كان يعمل في مؤسسة واحدة، وهم مرتبطون ببعضهم ارتباط صداقة منذ سنين عديدة، ويحضرون للمسجد جماعات ويحتلون الصف الأول، بل يذهب بعضهم لحجز الصف الأول له ولرفاقه الذين اعتاد الصلاة بالقرب منهم. ونتج عن هذه العلاقة استمرارية التفاعل الاجتماعي فيما بينهم، فتجدهم في المقاهي مع بعضهم، وهم يسيرون للتنزُّه مع بعضهم، وأحيانا ينقطع حديثهم بدخول وقت الصلاة وارتفاع الأذان فيضطرون إلى الدخول للمسجد وإتمامه فيما بينهم دون شعور منهم. وهنا وجب على الأئمة تفهُّم أبعاد هذه المشكلة.

2 – وبالنسبة لركن ثقافة وأخلاق وتربية المصلين فهي الركن الثاني والمهم فهمه لحل هذه المشكلة، لأن أغلب هؤلاء المصلين من ذوي الثقافة المحدودة والمستوى التعليمي البسيط، فأغلبهم من العمال وأصحاب المهن وإن ارتفع فمن الموظفين والإداريين وفيهم من متقاعدي قطاع التربية والتعليم. وأغلبهم حُرم في حياته من الحديث والتعبير والكلام، فلا حرج من ممارسة حقه في الكلام طالما وأنه لا مسؤولية تتوجب عليه قانونا.

وعلى الأئمّة الانتباه إلى عامل السن والمستوى التعليمي والثقافي، وعامل التربية الاجتماعية للناس، فالكل يعلم أن الجزائري قليل الكلام في بيته مع زوجته وأبنائه وبناته وأقربائه وجيرانه وحيه… وبالتالي فهو غير مشبع ومكتفٍ اجتماعيا ونفسيا.. ولهذا النمط من التربية أثره في الفرد، وغالبية هؤلاء المتقاعدين الكبار في قطيعة شبه تامة مع محيطهم الأسري القريب، نظرا لتصور المجتمع لهذه الفئة، ومن ثمة فهم لا يجدون سوى أبعاضهم لتناول أطراف الحديث فيما بينهم في الحي والمقهى ولمَ لا المسجدـ فعلى الأئمة التنبّه لهذا المتغير والعامل الأساسي في التعامل مع هذه الظاهرة ومعالجتها بشيء من الرفق والتودد.

3 –وبالنسبة لركن مفهوم ومكانة المسجد فهو أيضا ركنٌ رئيس يدخل في مدى وحقيقة تصور الجزائريين لمكانة بيوت الله وقداستها وحرمتها التي تحتاج دوما للتعريف، وعدم التساهل في صيانتها واحترامها، ودفع روَّاد المساجد إلى تلقى المواعظ المستمرة القولية والعملية والواقعية للرفع من قيمتها ومكانتها في أنفس المصلين، وإبعادها من أي استخدام سلطوي يُخرجها عن أداء مهامِّها الروحية والدينية، وتسخير منابرها ومحاريبها فيما يزيدها هيبة وقداسة، كي لا تتحوَّل عن أداء مهامها الموضوعة لها، وهي الحفاظ على الدين والشريعة والآداب والأخلاق واللغة والوطن والتاريخ…

4- وبالنسبة لركن وظيفة ومهام الإمام فعلى الداعية والإمام الوعي بنوعية الأمراض والأسقام النفسية الضاغطة المعشعشة في نفسية وتربية الفرد الجزائري والتفطن للتعامل معها، وتقديم خطاب ديني قادر على معالجة هذه الظاهرة السلبية، وتعمير المساجد بالدروس والحصص والحلقات وقراءة الكتب وشرحها، وتشجيع المصلين على طلب العلم، بربطهم بالدروس العلمية الشرعية اليومية بين صلاتي المغرب والعشاء.. وعدم ركون الأئمة إلى الكسل واكتفائهم بأداء الصلوات، وترك الفراغات الزمنية من غير دروس ولا حصص ولا توعية.. لأن الفراغ مطية للشيطان وللنفس والهوى.. وعلى الإمام مخالطة الناس والنزول إليهم بهدف رفعهم.. فجرّبوا تعرفوا.. ولوموا أنفسكم قبل أن تلوموا غيركم.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. أللهم اشهد أني بلّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!