-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حتـى يأتـــيَـــك اليـقـيـــن

سلطان بركاني
  • 364
  • 0
حتـى يأتـــيَـــك اليـقـيـــن

من الأحوال غير المرْضية التي أوصلنا إليها الركون إلى الشيطان ومسايرة الأنفس الأمّارة بالسّوء، أنّ العبادات أصبحت في حياتنا أحمالا ثقيلة، نحملها بأنفس كليلة وقلوب عليلة، حالنا كحال الأجير الذي يعمل من دون أجرة، نتمنّى أن نلقي الطّاعات عن كواهلنا في أقصر وقت ممكن، لنعود إلى شواغل الدّنيا وإلى ما يريح أنفسنا من محرقات الأوقات والأعمار!

رأينا في رمضان حال قطاع كبير من المسلمين الذين يتحمّسون لصلاة التراويح، لكنّهم لا يتحمّلون أن يتجاوز وقتها ساعة من الزّمن، ليس لأنّ لهم أشغالا مهمّة وضرورية تنتظرهم بعد الصّلاة، وإنّما لأنّ الوقت بين الإفطار والسّحور -بالنّسبة إليهم- هو وقت ترويح عن النّفس بعد يوم شاق من الصيام! وصلاة التراويح فاصل ينبغي أن يكون قصيرا لا تتجاوز مدته ساعة، بين ساعة تُتابَع فيها برامج الضّحك والكاميرا المخفية، وساعات تقضى في جلسات المقاهي حول طاولات الورق والدومينو والأحاديث التي تتشعب في شتى المواضيع ولا يخرج قائلوها وسامعوها بشيء يفيدهم في دينهم أو دنياهم، بل لا تخلو غالبا من الغيبة!

هذه الحال هي صورة مصغّرة لواقعنا الذي نعيشه، واختصار -غير مخل- لموقفنا من طاعة الله خاصّة؛ حيث نحرص على أن يكون وقت الطّاعة أقصر ما يكون، وكلّما طال أكثر ضاقت نفوسنا وتجهّمت وجوهنا أكثر، وربّما انطلقت ألسنتنا بذمّ من تسبّب في زيادة وقتها، وكلّ دقيقة ننقصها من وقتها، هي غنيمة نفرح بها لأنّها تُزاد في وقت “الترويح” الذي لا يعترينا الملل مهما طال وقته، ونحمد صنيع من يطيله بظرافته وحسن “قصرته”! مهما كان الزّمن فاضلا وكانت ساعاته من أغلى السّاعات!

وبسبب هذا الواقع الذي صرنا إليه مع طاعة الله، أصبح الانتكاس بعد رمضان ظاهرة ضحاياها بالمئات في كلّ مسجد، يبدؤون في التساقط مع أول يوم من شهر شوال! ولا تكاد تمضي أيام معدودة على رحيل رمضان، حتى تمسي صفوف المسجد تعدّ على أصابع اليد الواحدة! مهما سمع المصلّون من آيات تهزّ القلوب والأرواح في ليالي رمضان، ومهما كانت أصوات القراء خاشعة مؤثّرة، ومهما سمع المصلّون من خطب ومواعظ تحضّ على الثّبات وتبيّن أسبابه، وتحذّر من الانتكاس وسوء الخاتمة وتجلّي أسبابهما، وكأنّ حال كثير من رواد بيوت الله تنطق قائلة: ((سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِين))!

الجمع بين الصيام والقيام وتلاوة القرآن والبذل والمحافظة على الصّلوات الخمس في أوقاتها في بيوت الله، أصبحنا نراه سعيا مرهقا للنّفس، ونظنّ أنّ مِن البطولة أن يستمرّ عليه الواحد منّا شهرا كاملا! فإذا استمرّ فإنّ من حقّه أن يخلد بعدها إلى الراحة. ومن هذه الراحة يأتي البلاء، لأنّ النّفس الأمارة بالسّوء إذا ذاقت تاقت!

وحالنا هذه تختلف تماما عن حال الأوّلين الذين كانوا ينظرون إلى المحافظة على الصلوات في بيوت الله والصيام والقيام وتلاوة القرآن وبذل الصّدقات، على أنّها وظيفة العمر، وأنّها الحدّ الأدنى التي لا يُسمح للنّفس بالنزول دونه، فكان رمضان بالنّسبة إليهم محطّة للزّيادة على الحدّ الأدنى، وشحن الأنفس حتى تستمرّ على الحدّ الأدنى وما زاد عليه عاما كاملا.

إنّه قد آن لنا -والله- أن تفزع قلوبنا لهذه الحال التي رضيناها لأنفسنا مع طاعة الله، ونعود أدراجنا ونجاهد أنفسنا لتخرج من هذا الدّرك الذي يمكن أن يوردنا الويل يوم القيامة: ((فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)).. طاعة الله يجب أن يكون لنا منها حدّ أدنى لا ننزل عنه مهما تكن الظّروف والأحوال، وليس يصحّ أو يليق أن تبقى هامشا في حياتنا نمتنّ عليها بالأوقات المستقطعة من دنيانا.

أخي المؤمن.. ذكّر نفسك بأنّك لست في هذه الدّنيا لتأكل وتشرب وتتمتّع، هذه حال صنفين من المخلوقات: الأنعام، ومن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهل أنت من أحد هذين الصّنفين؟! ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)).. حاشاك ذلك. أنت عبد تؤمن بأنّ الدّنيا زائلة وأنّ هناك حسابا بعده ثواب أو عقاب، جنّة أو نار؛ فلتحيا حياة تكون فيها طاعة الله محور حياتك وهمّك الأكبر الذي تحمله.. جدّد نيتك واعقد عزمك بأن تكون أشهر حياتك كلّها رمضان.

إذا كانت الجمعة الماضية هي الأخيرة في رمضان، فلا تكن الجمعة الأخيرة التي تبكّر فيها لبيت الله. لا تكن الجمعة الأخيرة التي تهتمّ فيها بسماع درس وخطبة الجمعة.. وإذا كان رمضان سيرحل أمسية الإثنين أو الثلاثاء، فإنّ الصيام لن يرحل، والقيام لن يرحل، والقرآن لن يرحل.. لا تجعل بيت الله يشتاق إليك مرّة أخرى. لا تجعل المصحف يشتاق إليك بعد رحيل رمضان.. أنت لا تدري متى يأتيك أجلك، فربّما يأتيك بعد 10 أشهر من رحيل رمضان. ربّما يأتيك بعد شهر أو بعد أسبوع، وربّما يأتيك ملك الموت في ذلك اليوم الأوّل الذي تنام فيه عن صلاة الفجر بعد رمضان.

العمر قصير ولا يحتمل التقصير، ومكانك في المقبرة مكتوب عند الله. أنت لا تدري أين هو ولا متى ستأوي إليه، ولكنّ الله يعلم.. كن صادقا مع الله، واسأله أن يثبّت قلبك حتى تلقاه وأنت تطلب رضاه وترجو جنّته وتجيب نداءه وتعمر بيوته وتتلو كلامه.. ادع دائما وأبدا في صباحك ومسائك قائلا: “اللهمّ يا مثبّت القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك”. وادع قائلا: “ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا”.. إنّك تعيش زمان الفتن، وأنت في أمسّ الحاجة لتثبُت على دينك.. القلوب في هذا الزّمان تتقلّب كالقدور عندما تغلي، ولا تدري لعلّ فتنة تصيبك وأنت بعيد عن الله، فتنكر بسببها ما كنت تعرفه، وربّما تسيء الظنّ بخالقك، وقد تترك دينك جملة، وتموت على حال لم يكن يخطر على بالك أن تموت عليها.. في زمان مثل زماننا هذا: الواحد منّا ينبغي له أن يحافظ على صلاته ودينه ويتمسّك بالقرآن ليلا ونهارا، ويسأل مع ذلك الثّبات ويبكي بين يدي الله خوفا من سوء الخاتمة. كيف بمن ينام عن الصّلاة ويهجر القرآن؟ كيف بمن تعبد المظاهر وتتلاعب بالحجاب؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!