حتى الراقصات هربن!
هل صار قدرنا أن نمارس عشق البلد من خارج البلد؟ سؤال في منتهى “الالتزام” نطرحه ونحن نتابع أخبار مجموعة من راقصي وراقصات البالي وهم يفرون إلى كندا بعد أن أرسلتهم وزارة ثفافتنا “الموقرة” ليرقصوا بمناسبة ذكرى ثورة بن بولعيد وبن مهيدي وملايين الشهداء فأدّوا رقصة الأبدان وتحريك ”المسلان” في أحد مسارح مدينة مونريال لينتقلوا إلى ”شطحة” العمر بالاختفاء وطلب اللجوء السياسي، وهو ربما أول طلب للجوء السياسي من راقصين وراقصات في تاريخ الإنسانية.
-
في عمليات الهروب الفردية والجماعية التي قام بها دكاترة وطلبة وبطالين وحلاقات كنا إما نبكي على حال البلاد وهي تفقد أدمغة أفنت الجزائر المال والسنوات في تكوينهم، وإما نضحك لطرافة بعض الرحلات، ولكننا في هروب شباب وشابات الرقص تغلُبنا الأسئلة وتشلّ مشاعر الحزن والفكاهة فينا. فكيف لوزارة الثقافة أن تقدم في شمال القارة الجديدة برنامجا راقصا في ذكرى الثورة، بينما قادة الثورة ومؤرخوها ودكاترة التاريخ يبلعون شهاداتهم والحقائق التي بحوزتهم في صمت قبل أن يقضوا نحبهم ويدفنون معهم تاريخهم وتاريخنا؟
-
وكيف تمسّ الأزمة الاقتصادية الجزائر فتغلق الكثير من المخابر والمصانع وتسرّح المهندسين والبيولوجيين ولا تمس البالي براقصيه وراقصاته إلى درجة أنه يقيم في السنة الواحدة ما يزيد عن عشرين عرضا راقصا في أمصار الكرة الأرضية، بينما يحلم دكتور جامعي بأن يسافر مرة في عمره التعليمي إلى أي ملتقى في أي بلد كان؟
-
لا نختلف بالتأكيد في كون ما يقوم به راقصو وراقصات البالي نوع من الفن، ولا نختلف بالتأكيد أيضا في كون ما قام به راقصو وراقصات البالي بطلب اللجوء السياسي في كندا هو قمة العفن، فقد عرفنا كبار الفنانين وصغارهم عبر الأوطان والأزمان عشاقا لبلدانهم يعيشون للفن، لا يغادروها إلا إذا طاردتهم السلطة أو نفتهم، فقد مات الشاعر الفلسطيني محمود درويش في أوت 2008 وقلبه يعتصر لأجل أن يُدفن في تراب فلسطين برغم عنصرية واضطهاد الصهاينة، ومات الموسيقي بتهوفن في ألمانيا عام 1827 أصمّا يملأ الدنيا موسيقى لا يسمعها هو في بلد الجرمان الذي أذاقه مع كل سنفونية عذابا أليما، وانتحر النحات والرسام فان كوخ في هولندا عام 1889 وكانوا يقذفونه ببعض منحوتاته ولوحاته، ومات المغني مايكل جاكسن في جوان 2009 في أمريكا التي نسجت ومازالت عنه الحكايات والأساطير السوداء، وماتت أيضا الراقصة المصرية سامية جمال في ديسمبر 1994 في القاهرة حيث صدرت فتوى تكفيرها واستباحة دمها رغم امتلاكها لجنسية أمريكية.. كل فناني العالم على مر التاريخ كانت أبجديات إبداعاتهم تبدأ وتنتهي في أوطانهم إلا هؤلاء الراقصين والراقصات الذين أرادوها نهاية في آخر الدنيا في ذكرى هي التي منحتهم الحياة ومنحتهم حرية الرقص.
-
نعود من حيث بدأنا فقد هربت الأدمغة وبكينا، وهربت الأقدام وبكينا، وهرب الآن أصحاب “المسلان” فهل نبكي؟ قديما قيل أن الطفل يتعلّم الغناء قبل الكلام ويتعلّم لرقص قبل المشي، فهل تعلّم هؤلاء الرقص في الجزائر لأجل المشي في كندا؟.