-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حلّ رجب واقترب رمضان

سلطان بركاني
  • 804
  • 0
حلّ رجب واقترب رمضان
أرشيف

مع غروب شمس يوم الجمعة الماضية، رحل شهر جمادى الآخرة.. 58 يوما بقيت تفصلنا عن شهر رمضان.. بدأت الألسن تتحدّث عن قرب قدوم شهر الخيرات والبركات، شهر العفو والرّحمات.. وبدأت الأرواح المؤمنة تتلهّف للّقاء الموعود.. يستحقّ شهر رمضان أن تتلهّف له الأرواح وتشتاق إليه القلوب المؤمنة.. كيف لا وهو الشّهر الذي يمكن العبد المؤمن أن يعيش في ليلة واحدة من لياليه عمرا كاملا: 86 سنة؟ كيف لا وهو الشّهر الذي يمكن أن تتغيّر فيه وبعده حياة العبد المؤمن من غفلة وتيه وقسوة قلب، إلى هداية واستقامة وسعادة واطمئنان؟

قبل حلول رمضان، ستتوالى أيام شهرين يوطّدان للشّهر الفضيل، كان الصّالحون من عباد الله يولونها بالغ الاهتمام، أوّلهما شهر رجب؛ هذا الشّهر الذي حلّ أوّل أيامه يوم السّبت الماضي.. شهر ليس ككلّ الشهور، بل هو خير الأشهر وأفضلها بعد رمضان ومحرّم وذي الحجّة.. وكفاه فضلا أنّه أحد الأشهر الحرم، قال تعالى في سورة التوبة: ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين)).

الأشهر الأربعة الحرم هي رجب، وذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم، وهي أشهر كان النّاس يعظمونها في الجاهلية، ويحرّمون فيها القتال، حتى لو لقي الرجل منهم فيها قاتل أبيه لم يقاتله.. ثمّ أكّد الإسلام حرمتها وتعظيمها، فقال جلّ من قائل: ((فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ))، أي: “لا تعصوا الله فيها، ولا تحلُّوا فيها ما حرَّم الله عليكم، فتُكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه”.. المعاصي محرّمة في كلّ شهر وكلّ يوم وكلّ ساعة وكلّ لحظة، لكنّ إثمها يضاعف في الأشهر الحرم، كما تضاعف أجور الطّاعات. يقول ابن عباس في قول الله تعالى: ((إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)): يقول: “في كلِّهن، ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”. يقول قتادة رحمه الله: “أما قوله تعالى: ((فلا تظلموا فيهن أنفسكم))، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء”، ويقول: “إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل”.

شهر رجب، يهيّئ أنفسنا لرمضان، ويذكّرنا بحرمات الله التي نتعدّاها في سائر الأيام، ويربّينا على الحذر من امتلاء موازين سيّئاتنا ونحن غافلون.. ربّما ينسينا الشّيطان أنّ لكلّ واحد منّا ملَكا على شماله يكتب كلماته وهمساته ونظراته وغدراته، ((لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها))، وربّما مع قسوة قلب الواحد منّا وغفلة روحه يتمادى مع الصّغائر حتّى تستهين نفسه بالكبائر؛ فيسقط من عين الله، فيقارف أعمالا يحسبها هيّنة لكنّها أعمال تكسبه قناطير السيئات، وتضاعف عليه الآثام والأوزار: ينشر الكذب والبهتان في حقّ إخوانه من حوله، فيتداوله النّاس، وينشر صورا أو مقاطع سيّئة على الإنترنت، فيجري تداولها على نطاق واسع، فيحصد من ورائها ملايين السيئات.. وهكذا كلّما تطاول عمره، تعاظم ميزان سيّئاته، وهو غافل عن ذلك.

شهر رجب هو أيضا مفتاح أشهر الخير والبركة.. يقول الإمام أبوبكر البلخي: “شهر رجب شهر الزرع، وشعبان شهر سقي الزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع”، ويقول: “مثل شهر رجب مثل الريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل القطر”، ويقول أحد العلماء: “السّنة مثل الشجرة، وشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها، جدير بمن سوّد صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر، وبمن ضيّع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر”.

شهر رجب فرصة لمراجعة موازين سيّئاتها والتفتيش في حياتنا عن ذنوب لا نزال مصرين عليها، وعن آثام لم نتب منها، وعن أخطاء ظلّت معنا لسنوات وعقود، وقد آن الأوان لنتركها ونتخلّص منها ونتوب إلى الله منها.. شهر رجب فرصة سانحة لتصفير وتبييض موازين سيّئاتنا استعدادا لرمضان، لندخل الشّهر الفضيل بقلوب لينة وأرواح مرهفة، فنجد للتّوبة طعما وللأعمال الصّالحة لذّة وحلاوة.

بيّض صحيفتك السوداء في رجب * بصالح العمل المنجي من اللهب

شهر حرام أتى من أشهر حرم * إذا دعا اللهَ داع فيه لم يخب

طوبى لعبد زكى فيه له عمل * فكُف فيه عن الفحشاء والريب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!