خـاتـم سـُليمـان!
من يتجـوّلْ في بلادنا ويـزُرْ جـنوبها الساحـر وشمالها الفتان، وشرقها الباهي وغربها الزاهي، يجـزم أنه في جنـةٍ ـ كما وصـفَ الشاعر العظيم مفدي زكريا ـ أيـن منها جنـة الخلد التي تجري من تحتها الأنهـار!
- * ومن يشاهـدْنا ونحن نملأ المطارات والموانئ يجـزمْ ”أن الإنسان لربه لكنود”، وأننا سئمنا الجنة، وقررنا أن نتركها ونخرج منها جميعاً كما فعـلها أبانا آدم من قبلنا!
- * ومن يسمعْ عـن قوافـل “الحـراقـة” من شبابنا وهم يبحرون نحو المجهول يظن أنه “لم يعـد على هذه الأرض مايستحق الحياة”، وأن البلاد ضاقت بهم، وأن عليهم أن يبحثوا عن أرض أخرى تسَـعُ طموحاتِهم وتستـوعـب أحلامَهم حتى لا يضـعـوا أنفسهم فـي قائـمة: “الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم” فتنطبق عليهم أحكام الآية 97 من سورة النساء!
- * ومن يشاهدنا في الطرقات ونحن داخل سياراتنا نملأ مداخل المدينة ومخارجها، ونوّزع التلوث بالمجان على سمائنا يتساءل: من يعـمل في هذه البلاد ؟!
- * ومن يرانا ونحن نسابق بعضنا البعض بسياراتنا صباحاً، يظن أننا شعب ينافس الشعب الياباني في احترام الوقت، ويضاهي الصينيين في عشق العمل ويسابق الزمن حتى لا يسبقه الزمـن!
- * ومن يقصدْ إدارة من بعض إداراتنا أو مؤسسة من بعض مؤسساتنا ويجد أن العمل عندنا يبدأ في الصباح على التاسعة والنصف، وينتهي قبل الثالثة مساءً يظن أننا ننافس أشقاءنا في اليمن السعيد على تقديس مواعيد تناول القـات!
- * ومن يرانا مساءً ونحن نتلاحق بسياراتنا ــ لدرجة أننا وبمنتهى الأنانية لا يمكن أن نترك أحداً يمر قبلنا حتى لو أغلقنا الطريق على بعضنا البعض ــ يظن أننا في يومٍ يشبه اليومَ الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه!
- * ومن يرانا نسير راجلين في شوارعنا بين السيارات ووسط الطرقات الرئيسية وغير الرئيسية، ولا نعترف بشيء اسمه ممر الراجلين، يجزم أننا لم ندخل مدينة قط في حياتنا وأننا يوم دخلناها أفسدناها!
- * ومن يقفْ على الأرقام المهولة التي تحصدها حوادث المرور في بلادنا يدرك أن هذا الشعب كره الحياة أو شبعها، وقـرر الانتحار الجماعي السريع على طريقة الساموراي!
- * ومن تذهـبْ به رجْـلـُه إلى مـستشفى من مـستشفياتنا ويـجـدْنـا هــناك ”صـفا صـفا لا يتكلمون” يظن أن هذا البلد قد أصيب فجأة بنوبة تسمم جماعي!
- * ومن يقصدْ طبيباً من أطبائنا ويستلم منه وصفة مكتوبة بقلم جاف وبخط لا يمكن للعفاريت أن تفك طلاسمه، يجزم أن الزمن توقف بنا عند بداية القرن الماضي، وأن أمامنا قرونا طويلة من الزمن لنتعـرف على اكتشاف جديد اسمه الكمبيوتر!
- * ومن يصادفْ خروجنا من المساجد زرافاتٍ ووحدانا ”والبشر يعلو محياهم والغبطة تشيع من أعينهم من فرط السرور والحبور” يعتقـد أننا حمائم مساجد .. لا، بل ملائكة تمشي على الأرض!
- * ومن يلاحظ ْ سلوكاتنا مباشرة بعد خروجنا من المساجد يدركْ أننا كنا نصلي آلياً، وأن الصلاة لم تستطع أن تنهانا عن الفحشاء والمنكر!
- * ومن تقـُده خطواته إلى شاطئ من شواطـئنا يجزم أنه أخطأ وجهته، وأنه في بلد آخر غير بلد حمائم المساجـد!
- * ومن يسِـرْ في شوارعنا ويلاحظ بشكل ملفت آثار البصاق على أرصفتنا بما لا يمكن أن تراه في شوارع أقذر مدن العالم يتأكد أن هذا المجتمع لا علاقة له بدين النظافة ولا بمجتمع التمدن والحضارة!
- * ومن يدخلْ مكتباتنا ويجد الكتب مرصوفة مرصوصة على الرفوف منذ عهد عاد وثمود يجزم أن لا علاقة لنا بأمة إقـرأ، وأننا لم نفتح في حياتنا كتاباً واحدا، وأن على أصحاب المكتبات أن يبحثوا عن مهنة أخرى!
- * ومن يدخلْ أسواقـنا ومحلاتنا التجارية ويجدنا نتسابق ونتلاحق خلف البطاطا والفلفل والطماطم واللفت يجزم أننا شعب ملهوف خرج لتوّه من مفازة، وأنه يسابق الزمن ليعـوض سنوات الجوع والحرمان!
- * ومن يدخل مطعماً من مطاعمنا ويسمع أصواتنا العالية المرتفعة يجزم أننا في عرس بدون شاوش، وأننا ندخل مطعماً أول مرة في حياتنا!
- * ومن يدخل مكتباً من مكاتب البريد أو بنكاً من البنوك في بلدنا ويرى الناس تخـرُج بالأموال في أكياس بلاستيكية داكن لونها، يجزم أننا قررنا جميعاً أن نسحب نقودنا في يوم واحد، وأن البلاد في طريقها لأزمة اقتصادية مؤكدة!
- * ومن يفتحْ قماماتنا، ويُجري دراسة عن نوع الفضلات والبقايا التي تمتلئ بها شاحنات التنظيف يجزم أنه من المستحيل أن تمس أزمة اقتصادية هذا البلد إلى يوم يبعثون، وأننا الشعب الوحيد في العالم الذي يخلو من الفقراء!
- * ومن يلتق ببعض فقرائنا وهم يقتاتون من الزبالات والقمامات يجزم أن منظمة الأوبك مخطئة في قبول عضوية بلدنا، وأن البئر التي حفرها مسعود ذات يوم في الحاسـي نضب معينها!
- * ومن يشاهـدْ بعض فقراءنا يسرحون ويمرحون بأحدث طراز من السيارات الفاخرة يتأكد أن هذا البلد لا فقراء فيه أبدا، وأن علينا أن نبحث في بلادنا عن معـنى جديد للفقـر!
- * ومن يلمسْ تضامننا وتكاتفنا وتآزرنا عند الشدائد يتأكد أنه في بلدٍ لامثيل له على الكرة الأرضية، وأنه لن يندم أن يختار العيش بيننا وإلى الأبـد!
- * وأخيراً وليـس آخـراً: يستحـيل على من يسمـعـنا نتحدث أن يحـدد لغـتنا .. ويصعب على من يرى لحانا الطويلة، وسراويلنا النصـف ساق، وملابـس نسائنا الكاسيات العاريات أن يحدد هويتنا!
- * فاصل قصير:
- بعضكم سـيـرد: هذه هي الديمقراطية وإلا فـلا، وبعضكم سيقول: هذا هو التنوع العرقي والثقافي واللغوي وإلا فـلا، وبعضكم سيكتفي بتذكيرنا ببيت شعر منقوش على جدران سيدي عبدالرحمان الثعالبي يقول نصفـه: إن الجزائـر في أمرهـا عـجـبُ، أما المتشائمون منكم فلن يعدموا أن يضيفوا نقطة أخرى إلى النقاط الأربع والعشرين المذكورة أعلاه، ومن عرفها منكم أمنحه خاتم سليمـان!