-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عصر أجهزة صناعة الوهم

عمار يزلي
  • 648
  • 0
عصر أجهزة صناعة الوهم

عندما بدأ الإعلام المكتوب يظهر في أوربا بداية من القرن الـ18، كظاهرة مرتبطة بتطور الفكر في عهد التنوير، ثم مع انفجار الثورة الصناعية الأولى والثانية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لينفجر معها ظهور “الحوليات”، ثم يوميات القوى السياسية النامية مع البرجوازية الناشئة المتطلعة إلى حرية أكبر وتواصل أقوى بين مختلف الفئات وظهور فكرة وكلمة “المواطن” و”المواطنة” كجزء جوهري في العلاقات الاجتماعية المغيَّبة من قبل في عهد الإقطاع، وتسلط مثلث السيطرة المطلقة: النبلاء والكنيسة والملكية…
عندما حدث ذلك كلّه كان وقتها، العالم يتغير ويتحول بشكل سريع أكثر من أي وقت مضى، وهذا بفعل التصنيع والمكننة وظهور الجامعات كمؤطر للتطور الاقتصادي وكضرورة حتمية لظهور الرأسمالية التي هي في أمس الحاجة إلى قوة عاملة مكونة ومبدعة ومنتجة ومدرة للأرباح ولفائض القيمة الرأسمالي، لذا شكل ما يسمى بالحرية، والفردنة واللائكية، أسس ارتكاز حداثة القرن العشرين، التي هي حداثة النخب الليبرالية الناشئة، التي مكنت من تطوير وسائل الاتصال الحديثة المكتوبة قبل المرئية والمسموعة، والتي مثلث عصب الاتصالات العالمية خلال القرن الـ20.
وقتها، كانت قد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، تتشكل سلطة رابعة بعد سلطة الجهاز التنفيذي والعسكري والقضائي، سلطة تبدو مستقلة أحيانا، رغم أنها في كثير من الأوقات وإلى اليوم، ما زالت العديد من العناوين في الغرب ملكا للسلطة، لكن الاستقلالية هنا هي استقلالية فكرية فلسفية أكثر منها عضوية مالية؛ فالسلطة، لم تنتقل كليا إلى الشعوب، ولو حاولت بعض الأحزاب اليسارية والنقابات أن تكون لها جرائد وألسنة حال ومَحال، ودور نشر، لكنها في الغالب كانت تمثل صوتا يغرد خارج سلطة الهيمنة الأوليغارشية العامة والخاصة: أوليغارشيات رجال المال والأعمال والآلة الصناعية العسكرية والأمنية والطاقوية التي تهمين على العصب الرئيسي لكل نشاط إعلامي وسياسي وتوجِّهه أحيانا وتغيِّبه وتغطي عليه وتخفيه تارة أخرى عبر كل أشكال دعم الإشهار والدعاية.
مفاد ذلك كله، أن الحديث عن تحرر الإعلام وديمقراطيته في الغرب الكلاسيكي والحديث مع العولمة والليبرالية الجديدة، ما هو إلا وهمٌ في الواقع: حرية وديمقراطية القوى المهيمنة سياسيا المدعوَّة هي الأخرى اقتصاديا وماليا من طرف الأوليغارشيات المالية والطُّغم واللوبيات التي لا تبدو أنها تحتكر السوق الإعلامية، لكنها تُخضعها عبر جبروت القوة المالية التي تستظل بظلالها وتتقيد بإيديولوجيتها والمتحكمة في سرديات قصصها الإخبارية والتغطيات الإعلامية الموجَّهة للرأي العامّ.
ولأن العالم المعاصر هو نتاج لما بعد الحرب العالمة الأولى والثانية، وفلسفتها الميدانية التي نشأت من رحم المعاناة وانفجار المجتمع الغربي من الداخل في التجربة النازية، فإن ما نراه ونسمعه ونلمسه اليوم في مجال “حرية الإعلام في المجتمع الرأسمالي الغربي الأوربي والأمريكي والصهيوني” ما هو إلا سمفونية غير مكتملة للمجتمع الرأسمالي المتنامي والذي لا حدود له في الاستحواذ على خيرات العالم لفائدة قلة لا تزيد عن 10 في المائة من أثرياء العالم الذين يسوّقون ويروجون لبضاعة صار كل العالم اليوم يعرف أنها بضاعة كاسدة لم يعد الجميع كما كان في السابق يشتريها بكل اقتناع بمحض رغبته وإرادته.
لقد كشف انفجار وسائل التواصل البديلة، رغم عيوبها ومحاولة تقييدها ممن طرف المتحكمين في المال والسلطة السياسية والعسكرية بمنع تدفق أموال الإشهار عنها لتحطيمها وإرغامها على البقاء ضمن قوانين وقواعد السوق التي أسسوها منذ 3 قرون، إلا أن الثلث الأول من القرن الـ21، أظهر وسيُظهر أكثر كم أننا كنا بعيدين فعلا عن التوهم بأننا لم نكن نعيش.. وهما.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!