-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في كتاب: التربية والمدرسة مقالات وردود

قراءة في كتاب: التربية والمدرسة مقالات وردود

صدر كتابٌ للأستاذ المربي محمد أرزقي دحماني بالعنوان المبيّن أعلاه، عن دار نشر “خيال” بمدينة برج بوعريرج، في أواخر السنة الماضية (2023م)، متوسط الحجم، يحتوي على 184 صفحة. ورتّبه على النحو التالي: فهرس الكتاب، تقديم الكتاب بقلم الدكتور خالد عيقون (تلميذ سابق للمؤلف)، مقدمة قصيرة شرح فيها المؤلف مضمون الكتاب، والمقالات وعددها 25 مقالا، خصّص معظمها لقضايا تربوية شغلت الرأي العام خلال فترة (2015م- 2019م)، وقائمة المصادر والمراجع.

وقد أدلى المؤلف بدلوه في معترك النقاش بما تهيأ له من تكوين ومعرفة وتجربة وخبرة، هي بمثابة حصاد العمر وعصارة حياة. وتجدر الإشارة إلى أن جَمْعَ المقالات في كتاب هو أمر جارٍ في مجال التأليف والكتابة، فقد سبق للأديب طه حسين أن جمع مقالاته التي كان ينشرها أيام الأربعاء في كتاب بعنوان: “حديث الأربعاء”. وهذا من باب تعميم الفائدة.

ينتمي الأستاذ م. أ. دحماني إلى عرش إمَشْذالَنْ بولاية البويرة المعروف بعلمائه الإجلّاء المشهورين بلقب “المشذالي” وقد ذاعت شهرتُهم في الجزائر وفي العالم العربي قاطبة. أمّا عن أصل اسم (إمَشْذالَنْ) فقد أخبرني الأستاذ الوزير عبد الرحمن شيبان -رحمه الله- أن سكان هذا العرش قد شُبِّهوا بالنمل الأحمر(أمَشْذالْ) لشدّة تمسُّكهم بأرضهم المتميّزة بالتضاريس الوعرة. ومن أشهر علمائهم ناصر الدين المشذالي (1234-1331م) الذي مكث في المشرق نحو عشرين سنة (بين القاهرة ودمشق)، ومن أساتذته العِّز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء. وأدخل هذا العالم بعد عودته إلى الجزائر، كتاب: “مختصر بن الحاجب” في المذهب المالكي، فهذا الشبل من ذاك الأسد، وهذه الورقة من تلك الشجرة.

والأستاذ المربّي محمد أرزقي دحماني لمن لا يعرفه، هو أحد الجنود الأخفياء الذين أسهموا في بناء المدرسة الجزائرية غداة الاستقلال، وهم مسلحون بإرادتهم الفولاذية وبوطنيتهم المتأجّجة، معتمدين في الغالب على العصامية التي صنعت منهم رجالا كبارا بالمآثر والأعمال. تدرّج في الوظيفة، فانتقل إلى التعليم المتوسط بصفته أستاذا، ثم مديرا، وأكمل مساره المهنيّ في منصب مفتش التربية والتكوين للإدارة.

ليس من باب المبالغة وصف الأستاذ محمد أرزقي دحماني بكونه شخصية حديدية مثابرة، إذ تحدّى مرضه المزمن الذي أقعد جسمه العليل، لكنه لم يؤثر في عقله الوقاد، مؤكّدا بذلك أن مقولة “العقل السليم في الجسم السليم” هي مقولة نسبية لا تنطبق عليه. وذكّرتني إرادته الفولاذية بقول الشاعر:

– تجري الرياح كما تجري سفينتنا * نحن الرياح ونحن البحر والسفن

واصل الأستاذ م. أ. دحماني دوره التربوي التثقيفي في مرحلة التقاعد، من خلال تحرير مقالات أسهم بها في إثراء النقاش التربوي والقضايا العامة.

وخصّ الأستاذ م.أ. دحماني المنظومة التربوية وأسسها بمقالات، تناول فيها  المدرسة ووظيفتها، والقانون الأساسي للمدرسة الابتدائية، والحجم الساعي والزمن الدراسي المعمول بهما، ومكانة اللغة العربية ومنافسة اللغة الفرنسية لها، والقانون التوجيهي للتربية الوطنية.  كما تحدَّث المؤلِّف أيضا عن مواضيع تربوية متعددة كانت محل نقاش وجدال في الفضاء العامّ، كالدروس الخصوصية، والعقاب البدني، والعنف المدرسيّ، والغش في الامتحانات، واستعمال الدراجة في تعليم اللغة العربية الفصحى، والتربية الإسلامية، وقضية الأساتذة المتعاقدين التي برزت على سطح الأحداث سنة 2016م حينما نظم المعنيون مسيرة انطلقت من مدينة بودواو نحو العاصمة. وخصص أيضا مقالًا لدور الكتاتيب في إثراء الرصيد اللغوي للأطفال.

أورد المؤلف في كتابه مقالات أخرى ذات صبغة سياسية، انتقد في إحداها  تقصير البرلمانيين في أداء وظيفتهم الشرعية المتمثلة في الدفاع عن مصالح المواطنين الاجتماعية والمادية والمعنوية، وانشغالهم باستغلال المنصب من أجل الجري وراء مصالح شخصية ضيِّقة (مقال: إذا سكت المشرِّع نطق الشارع). كما ورد في الكتاب أيضا مقالٌ سياسيّ دسم تميّز بالجرأة في الطرح وبالنقد اللاذع للواقع السياسيّ المؤلم، بعنوان: “الجزائر بين برّانية الوطنية وجوّانية الفرنسة” أشار فيه بالدليل والحجة الدامغة إلى استمرار نفوذ فرنسا في عزّ استقلال الجزائر. وما  كان ليحدث هذا لو كان زمام الأمور في أيدي الأوفياء لقيم ثورة أول نوفمبر 1954م.

لعل ما يؤكد هذا الخذلان الموجع في رأي المؤلف، وجود محاولات عديدة لبتر النشيد الوطني من بعض مقاطعه لترضية الدولة الفرنسية، وكذا تعطيل اقتراح قانون تجريم الاستعمار الفرنسيّ ردًّا على سنّ البرلمان الفرنسي قانون تمجيد الاستعمار في 23 فيفري 2005م، وكذا تعطيل تطبيق قانون التعريب أكثر من مرّة، وإجهاض المحاولات التربوية الهادفة إلى إدراج اللغة الانجليزية في برامج المدرسة الابتدائية خلال تسعينيات القرن الماضي، وقال المؤلف في هذا السياق: «نعود الآن إلى مؤامرة أخرى نُسجت بإحكام في قضية بكالوريا 1992م، بغرض إجهاض مشروعين لا يخدمان أبناء فافا من ذوي توجّه التغريب والفرْنسة، وهما إعادة هيكلة التعليم الثانوي، واتخاذ قرار إدخال اللغة الانجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي إلى جانب الفرنسية». الجدير بالذكر أن هذه المؤامرة قد استهدفت وزير  التربية الأسبق عليّ بن محمد في سنة 1992. وذكر المؤلف أدلة أخرى لا يتسع المجالُ لذكرها.

في الكتاب أيضا مقالات ثقافية، ناقش فيها بعض آراء الروائي الدكتور أمين الزاوي في مسألة “استيلاء الدين” على اللغة العربية ودعوته إلى إنزالها إلى مستوى اللسان الدارج حتى تتحرّر من “نفوذ الدين”. وناقش المؤلف أيضا الكاتب نور الدين بوكروح المعروف بمقولة مفادها أن العرب والمسلمين غارقون في سباق عميق يجترُّون الماضي، لعجزهم عن مواجهة واقعهم بعقلانية. وقد عبَّر الكاتب نور الدين بوكروح عن فكرته هذه بقلمه وبلسانه بأسلوب لاذع شديد اللهجة أحيانا. هذا ما جعل الأستاذ م. أ. دحماني يخصِّص له وقفة في مقال بعنوان: “أدبر غريره وأقبل هريره”، وصفه فيه بالانفعال وبعدم ربط لجام قلمه بأعصاب عقله.

في الكتاب مقالٌ خاص بالمرافعة لصالح اللغة الأمازيغية بطريقة هادئة مقنعة، أكد فيه أن العلاقة بين اللغتين الأمازيغية والعربية منذ زمن بعيد مبنية على الوئام والتكامل، في إطار بوتقة الحضارة الإسلامية التي أسهم الأمازيغ في بنائها باللسان والسواعد والقلم أسوة بإخوانهم العرب.

أما عن حياة أعلام الفكر فقد اكتفى المؤلف م. أ. دحماني بذكر للمربي القابسي (من القرن العاشر الميلادي)، وعالم الرياضيات الخوارزمي (من القرن 9م.)

تجلّت كفاءة المؤلف من خلال هذه المقالات المفعمة بآراء تربوية مستمدة من أفواه رجال التربية الذين ذاعت شهرتهم في العالم منذ الزمن القديم إلى يومنا هذا (سقراط/ كونفوشيوش/ جان جاك روسو/ جان لوك/ جون ديوي/ بريكسون/ ومبفلنج/ رابلي، وغيرهم). ومكّنته تجربته الميدانية من مناقشة بعض قرارات وزارة التربية والتعليم عن دراية، مبيّنا بالحجة مواطن الخلل فيها مع تقديم اقتراحات عملية. ومن آرائه التربوية المذكورة في الكتاب، دعوته إلى توظيف مادة التربية الإسلامية كرافدٍ للقوانين المدرسية الردعية، من أجل القضاء على ظاهرة الشَّغب والتمرُّد والانحلال في الحرم المدرسي.

والجميل في هذه المقالات أيضا أنها كُتبت بلغة راقية جريئة من دون مجاملة، مرصَّعة بحِكم وأمثال تفيد القارئ، احترم فيها آداب النقاش، بمقاربة وسطية.

وفي الأخير أرجو للمؤلف مزيدا من العطاء الفكري والتربوي، مع العلم أن هذا المقال لا يُغني عن قراءة الكتاب مفصَّلا. وهذه بعض الملاحظات التي أرجو أن يأخذ بها المؤلف في الطبعة الثانية للكتاب:

– تقسيم النصوص إلى فقرات متوازنة لتيسير عملية القراءة. على أن تُكتب كل فقرة في سطر جديد، مع ترك فراغ في بداية الفقرة.

– إعادة النظر في ترتيب المقالات على أحد الخيارين: إمّا التسلسل الزمني لنشر المقالات، أو ترتيبها ترتيبا موضوعاتيا.

–  كتابة أسماء الأعلام الأعاجم  بالأبجدية اللاتينية، لتمكين القراء من الاطّلاع على أعمالهم بعمق في المعاجم والموسوعات والقواميس.

– حذف العبارة الخاصة بذكر اسم الكاتب ووظيفته ومدينته الواردة في نهاية كل مقال. لأن هذه العبارة مفيدة عند نشر المقالات في الصحافة، ولا معنى لها بعد جمعها في كتاب.

– وضع اسم صاحب كلمة تقديم على غلاف الكتاب، لأنه يعطي قيمة مضافة للكتاب.

– تصحيح النص الوارد على ظهر الكتاب.

– تفادي الكلمات الصعبة المهجورة التي قد تعيق القارئ عن استيعاب الفكرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!