الرأي

لماذا انسحبت الجامعة من الحياة الثقافية؟

أمين الزاوي
  • 4864
  • 41

ليستْ نوسطالجيا الزمن السبعيني، ولكنها السنوات التي كثيرا ما تطرح علي سؤالها الثقافي-الأدبي بإلحاح شديد، ذاك الزمن العسير سياسيا حيث طغيان الفكر الواحدي ولكنه الزمن الذي منحنا كتابا متميزين، ربما لأن المحنة تثير الهمة وهي الرحم الذي منه تولد الكتابة الصادقة المقاومة، وهو الزمن الذي يفرز فيه القمح من الشعير، محنة أعطتنا أسماء متميزة في الكتابة بالعربية وبالفرنسية من أمثال: عمار بلحسن والطاهر جاووت ورشيد ميموني وياسمينة خضرا وبوعلام صنصال وأزراج عمر وأحلام مستغانمي والحبيب السائح وسليمان جوادي ويوسف سبتي ومحمد مفلاح والشريف الأدرع ومحمد الصالح حرز الله وعلاوة وهبي وربيعة جلطي… منهم من اغتيل ومنهم من قضى ومنهم من سكت ومنهم من لا يزال يكتب بألق، لقد تميز هذا الزمن العسير سياسيا بنهضة ثقافية وأدبية متفردة.

إضافة إلى الجهود الفردية للكتاب، وكذا توفر الكتاب في المدن والقرى وبأسعار زهيدة، يمكننا القول بأن هذه الولادة النوعية ترجع أساسا إلى الدور الذي كانت تلعبه الجامعة الجزائرية في رعايتها للأسماء الجديدة، وفي النقاشات والحوارات التي كانت ترافق هذه التجارب، بعيدا عن شراء الذمم أو التملق، كان لهذا الزمن العسير أيضا مثقف محوري، ومبدع مسكون بجمرة الثقافة والكتابة والحرية، إنه مصطفى كاتب، كان هذا الرجل الاستثنائي يقود مديرية النشاط الثقافي والعلمي بوزارة التعليم العالي، ومن خلال هذه المديرية التي استطاع أن يحولها إلى وزارة الثقافة بيس (وزارة ثقافة 2، هكذا قال عنه هواري بومدين ذات يوم) ومن خلال رؤيته العميقة للفعل الثقافي استطاعت بلدنا في رحاب جامعاتها أن تستقطب أهم الأسماء الفكرية والإبداعية العربية والأجنبية في تلك المرحلة، بدعوة من مصطفى كاتب المثقف-المؤسسة، جاء الجزائر محمود أمين العالم، وأمير اسكندر ومحمد عودة وغالي شكري وجورج الراسي والطيب تيزيني، وجاءها مظفر النواب ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الله البردوني وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وأحمد فؤاد نجم وسليمان العيسى، وجاءها الشيخ إمام وخالد الهبر وعزة بلبع وغيرهم… كانت الثقافة نظيفة، وكان جيلنا من الكتاب الصاعدين آنذاك، الذين كنا طلبة هذه الجامعة المتحركة، كنا نشعر بالحراك الثقافي بالجامعة التي فاضت علينا خيرا بالمحاضرات والأمسيات الشعرية، وعروض المسرح والنقاشات المفتوحة على الثقافي والأدبي والسياسي.

كانت الصحف الجزائرية آنذاك على قلتها تحترم الثقافي فيها، وكان النقد الأدبي المعتمد والموثوق فيه يقوم به أساتذة جامعيون، كنا ننتظر كتابات الدكتور محمد مصايف والدكتور عبد الله ركيبي والدكتور عبد الملك مرتاض والدكتور الجنيدي خليفة والدكتور أبو العيد دودو والدكتور عبد الله بن حلي والدكتور الأخضر بن عبد الله والدكتور عبد الله حمادي والدكتور ضيف الله… ومع أننا كنا نختلف في رؤيتنا للإبداع عن هذا الجيل من أساتذتنا الذين كنا نصفهم ونقول عنهم: إنهم تقليديون وكلاسيكيون وكثيرا من النعوت الأخرى التي كنا نلصقها بهم، إلا أن مقالاتهم التي كنا ننتظرها في الصحافة اليومية أو الأسبوعية كجريدة الشعب وملحقها الثقافي أو المجاهد الأسبوعي أو جريدة الجمهورية وملحقها النادي الأدبي أو جريدة النصر وجريدة أضواء… كان الصوت المسموع حتى ولو بالرفض أو بالاختلاف.

و كان النقد الجامعي باللغة الفرنسية في هذا الزمن السبعيني هو الآخر يصاحب أجيالا متلاحقة من الكتاب باللغة الفرنسية، من جيل محمد ديب (توفي العام 2003) وكاتب ياسين (توفي العام 1989)، ومالك حداد (توفي العام 1978)، مرورا بجيل رشيد بوجدرة وأحمد أزغار وعائشة لمسين، وصولا إلى جيل الطاهر جاووت ورشيد ميموني، لقد كان النقد الأدبي الجامعي الذي تكتبه نجاة خدة وفوزية صاري وكريستيان شولي عاشور ومدين بعمر ومحمد إسماعيل عبدون ووديع بوزار وغيرهم الصوت العميق الذي كان يخرج من الجامعة إلى الصحف اليومية والأسبوعية، فيحدث ردود فعل ونقاشات تتقاطع وتتواتر على صفحات: أسبوعية الجزائر الأحداث (ألجيري أكتوياليتي) المجاهد بملحقه الأسبوعي والثورة الإفريقية وغيرها.

أقول هذا اليوم وأنا أشهد انغلاق الجامعة أكثر فأكثر على نفسها، وأقول أيضا إن الحراك الثقافي لن يتحقق له وفيه العمق والسؤال المعرفي، ولن يتمكن من التخلص من التهريج إلا بحضور قوي لهذا الصوت الهادئ، صوت الناقد الجامعي المتحرر من ثقافة صراع الديكة وثقافة الاستهلاك والبهرجة. للأسف لقد تحولت الجامعة إلى ما يشبه “ثكنة مدنية” يجيئها “الشباب” لقضاء بعض السنوات، هروبا من المرارة الاجتماعية ومن فقدان الأمل، ومن البرودة التي تسكن الروح، وأمام هذا الوضع المخيب والمنغلق تحول الأستاذ إلى “مدرس” يؤدي بالكاد دوره البيداغوجي. لم تعد الجامعة منتجة “الحلم” بل منتجة لليأس أمام الأجيال الجديدة.

.

لا جامعة بدون حراك ثقافي:

حين حضرت الجلسات الأدبية الوطنية الأولى التي نظمتها جامعة الجزائر 2 ببوزريعة، منتصف الشهر الماضي، وهي المبادرة الأولى من نوعها التي أتمنى أن تخرج من المناسباتية لتدخل في فلسفة بناء التقليد، والعرف الثقافي الجامعي المؤسس، وأنا أتابع النقاشات والمداخلات التي قدمت في هذه الجلسات الهامة على مدى ثلاثة أيام، حيث التقى بالمدرج الواحد، بل وعلى المنصة الواحدة، المثقف بالعربية وبالفرنسية، التقى الشاعر والروائي والسينمائي، في جلسات مفتوحة ونقاش حر وعميق ومسؤول، لا سلطة عليه سوى سلطة المعرفة، حين حضرت هذه الجلسات التي أشرف على تنظيمها ـ مشكورين ـ كل من الناقدة الدكتورة عفيفة برارحي (أستاذة بقسم اللغة الفرنسية) والكاتب محمد ساري (أستاذ بقسم اللغة العربية) ذكرتني ببعض ما كانت عليه جامعتنا في الزمن العسير الثري، الزمن السبعيني، بما كانت عليه من نقاش وحراك ثقافي جاد.

إن غياب الصوت الجامعي في الحياة الثقافية وعدم مشاركة الأكاديميين في الكتابة النقدية على أعمدة الصحف اليومية والأسبوعية، ترك فراعا كبيرا ملأه بعض الصحفيين المبتدئين الذين، مع احترامي لمجهوداتهم واجتهاداتهم، لا يمكنهم صناعة ثقافة نقدية عميقة دون أن يكون هناك نموذج يصاحبهم ويرافقهم، وهذا النموذج لن يكون سوى الصوت الأكاديمي الهادئ.

مقالات ذات صلة