-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما بعد العالم الافتراضي

عمار يزلي
  • 430
  • 0
ما بعد العالم الافتراضي

يوافق يوم 17 ماي من كل سنة، اليوم العالمي للاتصالات ومجتمع المعلومات، الذي يجري الاحتفال به منذ 1969، ثم منذ نوفمبر 2005 عندما دعت القمة العالمية لمجتمع المعلومات التابع للجمعية العالمة للأمم المتحدة إلى إعلان هذا التاريخ يوما عالميا لمجتمع المعلومات.

يأتي هذا، ومجتمع المعلومات، كمجتمع افتراضي، بات يشكل ظلا بديلا عن المجتمعات الفعلية الفيزيقية: فضاء اتصالي لا حدود له، وشبكة من الوسائط والعلائق والروابط التي تحيلك على الغث والسمين، وتعرض عليك كل أشكال البضائع الخبرية والسلعية والتسوّقية والعلمية والثقافية والترفيهية، بالمقابل تعرِّضك لكل أشكال التدليس والنصب والاحتيال والابتزاز والترغيب والترهيب والخداع والتأثير غير السليم، عبر “مؤثرين” لا وزن لهم إلا ما تزنه عدد “المشاهدات” و”الإعجاب”، من دون قيم عليا لتقييم هذا الإعجاب أو هذا الإقبال إن كان ذا مستوى عال أو ضحل.

مجتمع معلومات صار سيفا ذا حدين: حدّ فيه الجد، وحدّ فيه اللعب، ولم نصل بعد إلى ما يقول عنه أبو تمّام “في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعب”.

يُحتفل باليوم العالمي للمجتمع والمعلومات، والعالم أقرب إلى عصر رقمي بعد أن صار عصر الأنالوجيا في خبر كان، وعما قريب قد يندثر مع الورق لتصبح الرقمنة والصورة المتحرِّكة الآنية هي الطاغية، مما ينذر بعواقب انفلات مهني للخبرية والحِرفية والدخول في متاهات القنوات الذاتية النفعية المضللة، الناشرة لكل أشكال الكراهية والحقد والتدليس والتي لم تجد لها المنصات الرقمية سبيلا لحجرها أو مراقبتها. على العكس تماما، يتجه العالم مع “النيو ليبرالية” الغربية والأمريكية بشكل أساسي، نحو حذف كل أشكال الرقابة على المضامين بدواعي “حرية التعبير” الفردية في مجتمعات تقدِّس الفردية على حساب المُثل الاجتماعية.

لهذا، ليس غريبا أن يصادف هذا اليوم الـ17 من ماي، ما يُسمَّى بـ”اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية والمتحوِّلين جنسيا”. نفس اليوم، بنفس الدلالات التي تصبُّ كلها في مستنقع العولمة الواحد وهو حرية الفرد غير المحدودة حتى ولو كانت مناهضة للأخلاق العامة والمُثل المحافظة. حرية التعبير وقدرة المجتمع الافتراضي على تسهيل التواصل بين الأفراد والجماعات والتعريف بهم ونشر آرائهم وصورهم ومعتقداتهم بحرِّية يبدو أن الغرب صار يقدسها أكثر ما تقدس المجتمعات الدينية ثوابتها وعقائدها. من شأن هذه “الحرية” أن تجعل عاليَها سافلها وأن تقلب كل القيم والموازين الأخلاقية لصالح ليبرالية جديدة، همها الربح ولا شيء غير الربح.. وبكل الطرق والأساليب.

يحتفل العالم باليوم العالمي لمجتمع المعلومات والفجوة الرقمية تزداد ضيقا في بلدان وتزداد اتساعا في بلدان أخرى، مما يجعل دول الفجوة الرقمية الضيقة مستقبلا أمام تحدي “الاستهلاك” الأعمى للمضامين التي تسوِّقها منصات التواصل الاجتماعي وحتى منصات الأخبار العالمية، التي تعمل على غزو الفضاء عبر مئات وآلاف الأقمار الصناعية لتحويل الصورة إلى تجارة سهلة وعالمية ووسيلة للدعاية والاستهلاك، ولكن أيضا إلى وسيلة تجسس ومراقبة للخصوصيات المحلية والفردية، مما يجعل الفرد والمجتمع مستقبلا، فاقدا لاستقلاليته الهوياتية ولخصوصياته الفردية والاجتماعية. مجتمع افتراضي، ينأى شيئا فشيا عن العلاقات التقليدية ويحوّلها إلى شكل تراثي، عفا عنه الزمن، وهذا مقابل عوالم أرحب وعلاقات أعقد وشبكة تواصل أخطبوطية لا حدود لها، تدخل العالم غير المدرِك لخطورة هذا السلاح الفتاك ذي الحدّين في أتون التآكل القيمي الذي ينذر باندثار العلاقات الإنسانية تدريجيا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!