-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من الأسرار الإلهية في رمضان

من الأسرار الإلهية في رمضان

من أعظم أسرار رمضان أنه الشهر الذي اختاره الله تعالى ليكون موعدَ اللقاء المقدَّس بين السَّماء والأرض، والاتصال الممدود بين عالم الغيب وعالم الشهادة، الذي تجلَّى الله فيه على عباده بالأنوار الإلهية على صفحات حياتهم البشرية.        

فمن الأسرار الكونية التي فَاضَ بها علينا في الحياة: هذه التجلِّيات الإلهية التي تحلُّ في الزمان والمكان والإنسان، فيما نسمِّيه بـ:”البركة”، وهي من ألْصَق الصفات برمضان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزِّل الرَّحمة، ويحطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فَأَرُوا الله من أنفسكم خيرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ رَحْمَةَ اللَّهِ فيه“.            

وتعني “البركة” في الاصطلاح: “ثُبُوت الخير الإلهي في الشيء، كثُبُوتِ الماء في البِركة”، وهي بالمعنى العام: إنجازُ الأعمال الكثيرة كَمًّا، والكبيرة نوعًا، في وعاءٍ زمنيٍّ ضيِّق، قد لا يستوعبها العقل بالمنطق البشري القاصر، إذْ لا حقيقة مادية لوجود الزَّمن إلا بالعمل، فالحركة نحو الفعل هي التي تعطي للزَّمن وجوده، إذ يقولون أنَّ الجسم الثابت له ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، فإذا تحرَّك نشأ البُعد الرابع، وهو: الزمن، وأنَّ الاستمرارية في الحركة هي التي تعطي له معنى الوجود والامتداد.

وقد دلَّنا الهدي النبوي الشريف أنَّ لله تعالى من خيوط رحمته: نفحاتٌ ولطائف، ونحن مطالبون بالتعرُّض لهذه الأسرار الإلهية خلال هذا الشهر أكثر من غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ لنَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا”، وأنَّ التعرُّض لهذه البركة الإلهية، والسبيل إلى هذا التوفيق الرَّباني إنما يكون ذلك وفق قاعدة: بحسب الاستعداد يكون الإمداد، فيكون بـ:

1/ الاستعداد الذي جهَّزنا الله به، واغتنام الفرصة السَّانحة الممنوحة لنا، وتوظيف الطاقات والقدرات التي متَّعنا بها، والعمل من أجل القيام بالوظيفة التي خُلقنا من أجلها، حضورًا وفاعلية.

2/ التعرُّض للنَّفحات الإلهية والفتوحات الرَّبانية: بتفعيل الإرادة والتعبُّد بالأسباب، واستجلاب التوفيق الإلهي، وحسن التوكُّل على الله عزَّ وجل، وصدق الالتجاء إليه، والاستعانة به سبحانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: “استعن بالله ولا تعجز”، وهو ما نردِّده يوميًّا: “إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين”(الفاتحة:05).

رمضان فرصةٌ لحياة القلب والرُّوح: فالمعرفة القرآنية تهدي المؤمن إلى إدراك ذلك السِّر الذي يجمع بين هذه اللطائف الثلاثة عند الإنسان، وهي: الحياة والإدراك والعاطفة، وأنَّ مجمع هذه الأسرار هي: الرُّوح، فهي إذا أشرقت على الجسد انبعثت فيه الحياة، وإذا أشرقت على الدماغ تولَّد فيه العقل والإدراك، وإذا أشرقت على القلب انفجرت منه مشاعر الحب والخوف والتعظيم، وهي العواطف الدافعة للفعل والسُّلوك الإنساني.

وهي اللطيفة الإلهية التي تتجلَّى أكثر في حياة الإنسان خلال شهر رمضان، فتنبعث حياة القلب والروح، وهي الحياة الحقيقية التي تسمو فوق الحياة الطبيعية الجسدية، كما قال تعالى بالتعبير الحقيقي عن الحقيقة الواقعية: “أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا، كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”(الأنعام: 122)، أي: أحيينا قلبه وعقله وروحه بالإيمان والإسلام والقرآن.

ولذلك سمَّى الله تعالى القرآن روحًا، لأنه روحٌ للروح، فقال: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا، مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ، وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا”(الشورى: 52)، فهذا النور الإلهي الذي تمَّ نفخه كقوةٍ عقائديةٍ إيمانية على أرواح المؤمنين، وأطلق فيها هذه الطاقة النورانية الضخمة هي التي تبعث على الحيوية والحركة والتدفُّق والعطاء والإنجاز، بما يعطي للحياة طُعمها الحقيقي.

رمضان فرصةٌ لإعادة بناء الإنسان:

فقد جاء ذلك الملمح في تلك اللَّفتة القرآنية في قوله تعالى لسيِّدنا موسى عليه السَّلام في معرض الإعداد له: “وألْقَيْتُ عليك محبَّةً منِّي، ولتُصنع على عيني”(طه: 39)، والتي تقتضي: الدِّقة والعناية في هذه الصناعة المتفرِّدة، بما يستوعب كلَّ عناصر كينونة الإنسان: قلبًا وعقلاً، جسدًا وروحًا، وأنَّ رمضان فرصةٌ لذلك، فهو مصنعٌ روحانيٌّ لإعادة بنائه بناءً  جديدًا ومتكاملاً:

1- بناء العقل: فقد تميَّز هذا الشهر بأعظم حدثٍ كونيٍّ ربط الأرض بالسَّماء، وهو نزول القرآن الكريم، كما قال تعالى: “شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن”(البقرة: 185)، وهو أوثق مصادر الإنسان وأصدقها في المعرفة بالله والكون والحياة.

وتزداد الصِّلة بين الإنسان والقرآن خلال هذا الشهر، فيرتقي في مدارج السُّمو العقلي والفكري، فتتعمَّق عقلانية الإسلام في صناعة أشرف العناصر في بِنية الإنسان وهو العقل، بصناعةِ العقلية العلمية التي تؤهِّله للعبادة والعمارة والخلافة.

2- بناء القلب: وعبادة الصِّيام في رمضان هي من عبادات السِّر التي تضبط عقارب النيَّة والإرادة، وتتحكَّم في هيجان العواطف والغرائز، وتُمسِك بزوايا صلاح الإنسان واستقامته، كما ورد في الحديث القدسي الجليل: “… يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصِّيام لي وأنا أجزي به”.

3- بناء الرُّوح: فقد جعل الله تعالى غذاءَها وماءها وهواءها ودواءها في القرآن الكريم، قال تعالى: “وكذلك أوْحَينا إليك رُوحًا من أمْرِنا..”(الشُّورى: 52)، قال العلماء: سمَّى الله تعالى القرآن روحًا، لأنه روحٌ للرِّوح، والمقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة، والشعور بها، والتأثُّر بوجودها في الضمير، فهو النور الذي تخالط بشاشتُه هذه الرُّوح فيبعث فيها معنى الحياة الحقيقية، فتنكشف أمامها الحقيقة بمخالطة هذه الأسرار الإلهية لها.                                                                                  وشهرُ رمضان هو القطعة الزَّمنية المباركة لممارسة الإنسان أقصى طاقاته الرُّوحية في التعبُّد لله تعالى والتقرُّب إليه سبحانه، بما ينعش هذه الرُّوح ويغذِّيها ويحييها، فهو محرابٌ للتجسيد العمليِّ لقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”(الأنفال: 24).

 رمضان شهر انتصار الرُّوح على الجسد:

فمن عجائب قدرة الله تعالى في خلق الإنسان: أنْ تحالفت الأرض والسماء في أصل خِلقته، فهو قبضةٌ من طين أرضيةٍ، ونفخةٌ من روحٍ سماوية.                                                      وقد ثبت أنَّ قيمة الإنسان في هذا الوجود لا يكتسبها من عنصره الترابي المادي، بقدر ما هي متوقفةٌ على عنصره الرُّوحي النوراني، قال تعالى عن ذلك: “إذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشرًا من طين”(ص:72)، وهنا لا يساوي هذا الإنسان شيئًا، حتى قال عن هذه القيمة الوجودية له بهذه اللطيفة الإلهية، وهي الرُّوح: “فإذا سوَّيته، ونفخت فيه من روحي فقَعُوا له ساجدين”(ص:73)، ومن هذه الأسرار الإلهية في الإنسان هي نِسبة هذه الرُّوح التي بين جنبينا إلى ذاته العلية نِسبة التشريف والتكريم.

والصيام والقيام بالقرآن هما أعظم ساحات الجهاد الرُّوحي للإنسان، إذ يحققان معادلة التوازن بين أشواق الرُّوح والتخفُّف من شهوات الجسد.

إذا كانت الطاقةَ الجسدية للإنسان محدودة، وبها يتَّصف بالضَّعف البشري اللاَّزم، كما قال تعالى: “وخُلِق الإنسانُ ضعيفًا”(النِّساء:28)، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ متَّعه كذلك بهذه الطاقةِ الرُّوحية اللاَّ محدودة، وهي الطَّاقة الغيبية التي يستمدها من القويِّ المطلق، والتي تتفجَّر أكثر خلال هذا الشهر المبارك، الذي تفيض منه هذه الأسرار الإلهية اللامتناهية، بما يمكِّنه من شهود الإنجازات وتحقيق الانتصارات وصناعة المعجزات، وهو ما جعل شهر رمضان هو شهر العطاءات والبطولات والانتصارات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!