-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نفحاتٌ عبقة من رمضان جرجرة

نفحاتٌ عبقة من رمضان جرجرة

لا يكاد الذهن يخطو خطوات في درب الذكريات، حتى تجرفه مشاعر الشوق والحنين، إلى تلك الأيام الجميلة الساحرة، والحياة الهادئة البسيطة، في تلك القرية الرابضة بهدوء ووقار، على هضبة ممتدة في الفضاء شرقا، وهي تشرف على ما حولها، من قرى متناثرة، في أرباض الأودية، وفوق الروابي، كأنها لبؤة تتمتع بمنظر أشبالها، وهي تلهو وتمرح، تحت عنايتها وحمايتها. وعلى مسافة في الأفق ليست بالبعيدة، تبدو سلسلة من جبال جرجرة الشماء، منتصبة كأنها أنياب الأسد، تحذِّر كل من تسوِّل له نفسه من الاعتداء على حرماتها..!

تلك هي قريتي (إفرحونن)، الواقعة على بعد 57 كلم شرق مدينة ثيزي وزو بالجزائر، حيث ولدتُ وترعرعت، وتمرغتُ فوق أرضها المعشوشبة، وتحت أدواحها الباسقة، ذات الظلال الوارفة، وفي طرقاتها المغبرة تارة، والموحلة تارة أخرى؛ حيث ركضت ولهوت، وبشيء من المشاغبة والإزعاج، وبكثير من البراءة والأحلام، والخيال الملون بألوان الشفق البديع الخلاب.

إن أنس لا أنس تلك الليالي المقمرة، وتلك النوادي البهيجة الساحرة، التي نعقدها نحن الصغار بصفة عفوية، دون تخطيط في الزمان أو المكان. أو حين نسري في ظلام الليل الدامس، الذي يخيِّم على الكون، لا يمزِّقه سوى نقيق الضفادع، وحشرجة الحشرات، أو نباح كلب بعيد.

لكن هذه الليالي تزداد سحرا ورونقا وجمالا، كلما أقبل شهر رمضان المبارك، فترى الأهالي في نشاط غير معهود؛ من تنظيف للأفنية والأزقة والبيوت؛ حيث تُرشُّ الجدران، خاصة في فصل الصيف، بتراب أزرق اللون يدعى محليا: “ثومْـليلْثْ”. ويُطلى أسفل الجدران وكذلك المنافذ والكوى بالجير الذي يُصقل وينعَّم بحجر أملس، حين يوشك على الجفاف، وهذا من أجل الزخرفة ووقاية المتكئ عليها من التلوث.

وبما أن الأغلبية الساحقة من السكان فقراء، فإنَّ معيشتهم في شهر رمضان لا تكاد تختلف عنها في سائر أيام السنة.

أما جديد رمضان بالنسبة للصغار فتجربة الصوم لأول مرة، إذ يحاط الصائم الصغير بهالة من العطف والتقدير، وتنهال عليه عبارات التشجيع والثناء، لعلها تلهيه عما يكابده من ألم الجوع، ولسعات الظمأ؛ وعند الإفطار تُعدُّ له وجبة خاصة، وهي بيضة مسلوقة أو بيضتان، يتناولهما في مكان مرتفع من الدار، وغالبا ما يكون المكان هو السور الحاجب للفناء، لانعدام الأسطح فوق المنازل التي تسقَّف عادة بالقرميد.. ولا أزال أذكر صيامي أول يوم في حياتي، وكان ذلك في فصل الخريف، حيث جني ثمار التين في أوجه. وكنت طوال اليوم كلما عثرت على تينة يانعة شهية، أدَّخرها إلى وقت المغرب في جيبي حتى امتلأ، ولكني بمجرد أن تناولت لقيمات عند الإفطار فقدت شهيتي.. لا أدري، لعلي لم أذق من التين الذي ادخرته ولا تينة واحدة.!

أما طعام الكبار فلا فرق بينه وبينه تقريبا في سائر أيام السنة، الإفطار على الكسكس من الشعير، ويسقى بمرق الخضر الطازجة في موسمها، أو الجافة في غيرها، حسبما تجود به الحقول. وقد تضاف عند البعض فواكه الموسم، أو التين المجفف عند انعدامها، ووجبة السحور تقتصر على الخبز (الكسرة) باللبن المخيض لدى من يربِّي المواشي، أو بضع ملعقات من الزيت. وعند البعض الآخر يؤكل جافا، وقد شاهدت من كان يبلل الخبز بالماء، هذا هو طعام رمضان البسيط الخفيف؛ فلا شربة ولا حساء، ولا حريرة ولا قهوة، ولا زلابية ولا مشروبات..

ولكن في ليلة القدر تعدُّ أفخر الأطعمة من كل قادر على ذلك، وتحمل إلى المسجد، وتوضع للجميع، على شرط ألا يأكل صاحب الطعام من طعامه، وهذا تجنبا لإحراج من لم  يقدِّم طعاما، أو قدّمه دون غيره من الأطعمة كمية وجودة.

وهكذا يتلذذ الجميع بأكلة شهية، وألذ منها وأشهى، ذلك الجو السائد من المحبة والألفة والأخوّة والبهجة والسرور. هذا الجو الحميمي الدافئ، الذي فقدته البشرية التعيسة التائهة، وفقدت بفقدانه السعادة، واطمئنان النفس، وهدوء البال، وراحة الضمير؛ فلو أن رمضان لم يقدِّم للصائمين سوى هذه النفحة الروحانية الرائعة، لكفاه نبلا وشرفا.

ثم إن هناك بعض العادات الحسنة قد اندثرت ـ مع الأسف ـ قبل أن أدركها أنا؛ تلك هي حالة الصائم لشهر رمضان كله لأول مرة؛ إذ يطعم هذا الصائم من طرف ميسوري الحال، طيلة شهر رمضان، ويقال: ) إنه أغلق رمضان).

وهناك عادة أخرى اندثرت كذلك، وهي إيقاظ الناس لتناول السحور؛ وذلك أن يتطوع أحد السكان ـ وغالبا ما يكون فقيرا لأن الناس يكافئونه ـ ويطوف خلال الديار ليلا  يدق على طبلة بيده، ويردد بعض الأهازيج التي تحث الناس على تناول السحور، كما تحثهم على التوبة.

وبعد الإفطار يتجه الناس إلى المسجد لصلاة التراويح، وكان الحفاظ يتداولون على إمامة المصلين لوفرة عددهم. وأفضلهم في نظر المأمومين هو الذي يقرأ بسرعة فائقة؛ لأن ذلك عندهم دليل الحفظ الجيد؛ وتسمعهم يرددون بكل إعجاب وتبجيل عبارة: «إن فلانا في قراءته كوابل من البرَد». وهذا ما يشبع غرور معظم القراء، لذا تراهم يتبارون في السرعة المفرطة، حتى أن المرء في بعض الأحيان يصعب عليه متابعة القارئ ولو كان حافظا للقرآن…!

وفي ختام التراويح يتحرر بعض كبار السن من الصفوف ليتكئوا إلى الحائط ، ثم يُشرع في الذكر الذي يشارك فيه الجميع وبدون استثناء، ولا يغادر الحلقة أحدٌ إلا لضرورة قصوى.

وهذا الذكر يلحَّن بألحان شجيَّة رخيمة متعددة؛ بحيث لا يكاد أي مقطع يشترك مع غيره في نفس اللحن، وربما لحن مقطع واحد بعدة ألحان. هذا التنويع في التلحين يجعل الذكر ينساب في أنغام خفيفة رشيقة، عذبة أخاذة، تقذف بالسامع في أحضان النشوة  والمتعة، تجعله يسبح في آفاق روحانية، ملونة بألوان بديعة، تزري بألوان قوس قزح.

وعند الانتهاء تبسط الأكف بالتضرع إلى الله، وترتفع الحناجر بالدعاء، تستمطر الرحمات، من خالق الأرض والسموات، ويدعى لكل من يطلب الدعاء. وترى على الوجوه هالات من الإشراق تتلألأ نضارة، وهي راضية مستبشرة، كأنما الدنيا لا تسعها من البهجة والارتياح…!

لله درك يا رمضان.. كم فيك  من الخيرات والبركات والمسرات..! وكم غفل عن ذلك كله الغافلون، وتاه عن التمتع به التائهون.

وتيرة العمل في رمضان:

وتيرة العمل في رمضان لا تتغير مهما كانت ظروف العمل قاسية؛ لأن المواسم في الطبيعة لا تتقدم ولا تتأخر؛ لذا يجب الانسجام معها، حتى لا تفوت فوائد أي موسم للغرس والبذر والجني. ولعل أشق الأعمال في السنة هو الحصاد والدراس. وأذكر أننا أنهينا درسة واحدة، وكان الجو حارا جدا، وهذا ما يغتنمه الفلاحون؛ لأنه يساعد على إتمام العملية بسرعة، نظرا لجفاف الحصيد الذي يتطلب التفتيت التام، حتى تتم التذرية، لفصل الحَبِّ عن التبن بسهولة. ولما لاحظ الوالد رحمه الله هذا الحر الشديد، والجفاف المغري قال: «لولا رمضان لاغتنمنا هذا الجفاف بإضافة درْسة ثانية»..! أجاب الأخ الأكبر رحمه الله: “سنفعل”. قال الوالد بشيء غير قليل من الانزعاج: «هذا مستحيل.. مستحيل.. أنتم صائمون». أجابه الأخ: “والله لنفعلنَّ”. شرعنا في الدرسة الثانية، وتمت حين أوشكت الشمس على المغيب. وتهالكنا كلنا على الأرض بدون حراك، وبعد هنيهة استعدنا بعض قوانا. قال أحدُنا: «انظروا إلى فمي.. إنه جاف ويابس كقطعة جلد قديم». أجبنا بصوت واحد: «كلنا كذلك».

حان وقت الإفطار. حُذِّرنا نحن الصغار من الإفطار على الماء، لاسيما البارد، خوفا من تعرضنا لالتهاب رئوي، وقُدِّم لنا بدلا من ذلك ماء المرق المُعَدِّ لسقي الكسكس؛ إذ لا شربة ولا حساء ولا حريرة… وبعد تناول طعام الإفطار الذي هو كسكس  بمرق وبدون لحم، وشربنا معه بعض اللبن المخيض، ارتمى كل واحد منا متهالكا، مستندا إلى أقرب شيء إليه..! وخيم سكون ثقيل كسكون المقابر، حتى الأنفاس كادت تتوقف..! وبعد هنيهة بدأت الحركة تدب من جديد، استعدادا للذهاب إلى صلاة التراويح.

وبنفس الوتيرة يتم موسم الحصاد، مع بعض التغيير في التوقيت، إذ يُشرع أحيانا في الحصاد بعد تناول السحور مباشرة، وكثيرا ما كنا نتلمس السنابل تلمسا في غبش الظلام، وهذا لكي يتسنى لنا التوقف قبل اشتداد الهجير، ثم العودة في العشيّ  إلى الحقول لاستئناف الحصاد في وقت متأخر نسبيا.

هكذا تؤدى الأشغال في رمضان ولو في ظروف قاسية، لا يكاد المرء يصدقها.

وفي أواخر رمضان يدخل الناس في دوامة الاستعداد لاستقبال العيد؛ وذلك بشراء الثياب الجديدة، وخاصة للأطفال، ولعلها المناسبة الوحيدة لاقتناء لباس جديد.. وفي اليوم الأخير من رمضان تُذبح الذبائح، إما على انفراد أو جماعيا، وفي هذه الحال يشارك الفقراء في الحصول على اللحم دون أن يدفعوا شيئا. مع العلم أن بعض الفقراء لا يأكلون اللحم سوى في العيد.

وفي الصباح الباكر من يوم العيد يستيقظ الناس، فيُسمع للأبواب صريرٌ لذيذ يدغدغ الأحاسيس، فتشرع النسوة في إعداد فطور الصباح، بينما توضع كومة من الحبوب، ليشرع رب البيت في كيل زكاة الفطر، بمده صلى الله عليه وسلم على كل فرد من أفراد العائلة الأحياء. وقد تقدَّم هذه الزكاة حتى على أرواح الموتى، تيمُّنا بشهر رمضان.

ثم يتجه الناس إلى المقابر لزيارة الأعزاء الذين غادروا الدنيا، وهذا ليس لإثارة الأشجان والأحزان، في يوم يتطلب توفير أسباب البهجة والسرور، بل لإشراك هؤلاء الأعزاء في فرح الأحياء؛ لأن الاعتقاد السائد أن الأرواح تفرح بتذكُّر الأحياء إياهم، كما تحزن  بتناسيهم. وهناك تُقرأ سورة “يس” وبعض السور القصار، مختومة بالدعاء والابتهال إلى المولى جل وعلا، أن يتغمدهم بالرحمة والرضوان.

ثم يتجمع الناس في المصلى أو المسجد لصلاة العيد، وسماع الخطبة. وريثما يحين وقت الصلاة تتعالى الحناجر بالتسبيح والتهليل، بأصوات شجية ندية، تنقل السامعين إلى جو روحاني ممتع.

وبعد الصلاة والخطبة، يتعانق الناس، ويتبادلون التهاني بكل حرارة، ولا يبقى اثنان دون أن يتعانقا؛ لأنها المناسبة التي يتصالح فيها الجميع، وحتى إذا تثاقل متشاحنان عن التصالح بينهما، فلن يعدما واحدا من العقلاء يطلب منهما المصالحة التي لا  يترددان لحظة في الاستجابة لها؛ لأن كلا منهما كان يود في قرارة نفسه، أن تنتهي المشاحنة لتنطلق العلاقة الودية من جديد.

ثم يتفرق الناس ليطوفوا خلال الديار، لزيارة الأقارب في منازلهم، وبعد الانتهاء من التزاور والتغافر ينصرف الجميع إلى ذويهم لتناول أول وجبة في الإفطار. ومن العرف السائد ألا يتناول أحدٌ هذه الوجبة خارج منزله، حتى يجتمع شمل العائلة على مائدة واحدة، في جو يسوده التقارب والتآلف بين القلوب والأرواح، كما تم التقارب والتآلف بين الأبدان والأشباح.

هذا هو نموذج الأعياد بأعالي جرجرة.. تلك أيام جميلة قد ولت..! وولى معها الكثير من تلك النفحات العبقة، والعلاقات الودية، التي تجعل الحياة هنية، والمعيشة صافية..!

جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الأنس (من جرجرة)

عليك مني السلام             يا أرض أجدادي

ففيك طاب المقام             وطاب إنـشـادي

أحببت فيك السمر            وبهجة النـــادي

أحببت ضوء القمر          والكوكب الهادي

والليل لما اعتكــر           والنهر والوادي

والفجر لما انتـشر            في أرض أجدادي

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!