-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أماكن عتيقة تخزن ذاكرة المدن والأشخاص

‫كورونا يغلق مقاهي ظلت مفتوحة قرنا ونصف قرن!

وهيبة سليماني
  • 3261
  • 3
‫كورونا يغلق مقاهي ظلت مفتوحة قرنا ونصف قرن!
الشروق أونلاين

‎‫”المقهى” هذا المكان الذي يتجلى فيه التاريخ اليومي لمرتاديه، والمدمنين على “قهوته”، هذا “البارومتر” الذي يقاس به المجتمع، ويعرف به حال الآخر.. فجأة يقرر غلقه بقرار حكومي للوقاية من فيروس كورونا المستجد، فيحرم شباب وكهول، وشيوخ من التنفيس عن همومهم، بارتشاف فنجان قهوة ساخن لشحن طاقة يوم جديد، واستقبال أخبار تعوّد بعضهم التقاطها بين ضجيج وثرثرة المدمنين ارتياد هذه الأمكنة.

‫أريجيه بعض المقاهي العتيقة والتي احتضنت جدرانها تاريخ المنطقة التي تركت بصمتها فيها، بقيت عالقة في نفوس جزائريين، وجدوا أنفسهم بعيدين عنها، من دون أن يتوقعوا ذلك، حيث فيروس كورونا المستجد، استدعى للوقاية من انتشار عدوته، غلق المقاهي والمساجد، وهي أماكن تعلقت بها القلوب وعشق بعض الناس ارتيادها طيلة حياتهم، فأصبح لبنة من لبنات شريط تاريخها المحتضن بين جدرانها من دون انقطاع، فالمقاهي تأتي قدسيتها بعد المساجد في الأحياء الشعبية والعتيقة.

‫وفِي العاصمة تركت مقاه بصمتها في أحياء مثل القصبة وساحة بورسعيد، وبلكور وغيرها من المناطق وسط المدينة، مثل مقهى “مالاكوف” و”ميلك بار” و”طانطنفيل”، وكانت الكثير من المقاهي في كبريات المدن ملتقى النخبة المثقفة، والفنانين، ورواد الأدب، فكما ارتشف هؤلاء على طاولاتها، فنجان قهوة ساكن أو مشروب بارد، كتبوا أيضا على طاولاتها، قصصا، روايات ومسرحيات وقصائد ورسموا بورتريهات، وعقدوا صفقات وخططوا خلال ثورة التحرير لمعارك.

‫مقاه فتحت أعتقها أبوابها للزبائن منذ قرن ونصف قرن من الزمن، فاستمرت في خدمتهم، رغم تغير الأحوال والظروف من حولها، وإن سبق لها أن اضطرت إلى ذلك ولو لأسبوع، فلا يمكن أن يكون طارئ مثل فيروس كورونا فرض عليها أن تلفظ زبائنها مرغمة لـ15 يوما وتقطع بذلك سلسلة شريط تاريخ تشهد له جدرانها والطاولات والكراسي، ورائحة قهوة ثقيلة لا يتوقف الطلب عليها منذ إشراقة النهار الأولى.

‫ويأتي غلق المقاهي في وقت أصبح فيه حتى الجنس اللطيف يجلس على طاولات الرصيف، ليزاحم الرجال، في ارتشاف القهوة أو الشاي، أو شرب العصير وتناول المثلجات، وهو حال مقهى “ميلك بار”، هذا المكان بالجزائر الوسطى الذي بات متنفسا لشريحة من النساء حيث يقضين وقتهن في الجلوس إلى طاولاتها لساعات، ومثل هذا المقهى، مقاه انفتحت على الشارع.

‫وعرف مقهى البريد المركزي، مؤخرا توافد زبائن من نخبة مثقفة وسياسية وشباب فنانين، ونشطاء حقوقيين، والمدافعين عن الحريات، وهذا بعد انطلاق الحراك الشعبي يوم 22 فيفري 2019، ما أكسبه خاصية قد ينفرد بها عن مقاه تعرفها مؤخرا الشوارع الكبرى في العاصمة.

‫محمد عباس: المقهى مكمل للحياة الاجتماعية

‫ويحن الكاتب الصحفي، والمؤرخ، محمد عباس ومع فترة، الحجر الصحي، وتطبيق قرار، غلق الفضاءات العمومية، إلى مقهى شارع فرنان حنفي القريب من محطة الميترو بحي عميروش بحسين داي بالعاصمة، حيث تعوّد التردد عليه، والالتقاء مع أشخاص يقاسمونه نقاشاته وأفكاره، كما استرجع ذكريات له في مقهى “اللوتس” وسط العاصمة، عندما كان جزءا من وقته يقضيه وسط فنانين، مثقفين، وكتاب، ومذاق الين لا يفارق أفواههم المتحدثة عن الفن والسياسة، ومعضلات الحياة اليومية.

‫قال محمد عباس لـ”الشروق”، “إن المقهى مكمل للحياة الاجتماعية، وحياة العمل، وقد يشكل جزءا مهما من حياة بعض الأشخاص”.

‫وأكد أن بعض المقاهي، سواء في العاصمة أو في مدن جزائرية أخرى، تواجدت منذ بداية دخول الاستعمار الفرنسي، وبعضها كانت في سنوات مضت بمثابة نواد ثقافية، ومزار للفنانين، وكبار الكتاب، “تملك نكهة مختلفة ومميزة” يقول الصحفي محمد عباس.

‫ويضيف المتحدث، إن “طانطنفيل” المقهى الذي بني منذ 150 عام، لا يزال وجهة للفنانين والممثلين، بحكم محاذاته للمسرح الوطني “محي الدين باشطارجي”، لكن في ظل الحجر الصحي المنزلي، وغلق المقاهي كأماكن عمومية قد تساهم في نشر عدوى كورونا، أصبح فضاء صامدا مثله مثل “مالاكوف” المقهى الواقع في القصبة، العلبة السوداء، لذاكرة كبار المشاهير والعاصمة، ومكان الحاج العنقى والحاج مريزق، ومقهى التلمساني، ببورسعيد “سكوار” المطل على البحر، والذي يستأنس في لحظات غلقه بصوت دحمان الحراشي، فطالما كان يتردد عليه، ويملأ بصوته أرجاءه.

‫أستاذ علم الاجتماع: المقهى أصبح بمثابة “بارومتر” الشارع الجزائري

‫ويعتبر أستاذ علم الاجتماع، بكلية الاقتصاد، بجامعة بجاية، الهادي سعيدي، أن ما وصلت إليه مقاهي الجزائر اليَوْمَ، مخالف لما كانت عليه في سنوات مضت، لكن هذا لا يعني أن فئة المدمنين على ارتيادها، لم تعد موجودة، فرغم الأجهزة التكنولوجية، حسبه، وهيمنة منصات التواصل الاجتماعي، على حياة شريحة لا بأس بها، من المجتمع، إلا أن هذه الأمكنة لها قدسية بعد المسجد عند بعض الناس، خاصة الشيوخ.

‫والمقهى، حسب سعيدي، ملتقى الغرباء والأصدقاء، ومكان الجلوس إلى طاولاته خارج العائلة.

‫وهو، يضيف، فضاء التواصل، والأخذ بالآراء، والمشاكل العامة، بمثابة “بارومتر” المجتمع، يقيس به مرتادوه، هذا المجتمع، والوضع العام له، ويلجأ إلى هذا “البارومتر” الذين لا يقرؤون الصحف ولا يتابعون الأخبار عبر التلفزيون، فهم ينتظرون من يلخصها لهم في المقاهي.

‫وقال أستاذ علم الاجتماع، إن المقهى أصبح وخاصة في الأحياء الشعبية، مكانا لتشويه سمعة الأشخاص، والنميمة، وتداول الإشاعات، وغابت عنه فئة مثقفة تطرح أفكارها، كما سبق، وهي تتذوق فنجان قهوة أو كأس شاي ساخن. وفئة الشباب في الغالب تشرب فنجان القهوة، على عجل، وهي منشغلة بـ”سمارت فوت”.

‫ولكن أدى غلق المقاهي، في رأي الهادي سعيدي، كسابقة تاريخية في الجزائر، إلى قطع هذه الأمكنة العمومية، من حياة اجتماعية، تعتبر جزءا من يوميات الكثير من الجزائريين، فهو مكان عمومي، مقطوع من فضاء تواصل، حقيقي، أي نوع من القطيعة مع الآخر، ما قد يزيد في الضغط والخوف، والإحساس، حسب المختص في علم الاجتماع، من الشعور بالعزلة عند مرتادي المقهى.

‫بن حليمة: المقهى مكان لتفريغ مكبوتات داخلية

‫ويرى، المختص في علم النفس، الدكتور مسعود بن حليمة، ان غلق المقاهي لمدة تزيد عن أسبوع، قد تتسبب لدى زبائنها المدمنين عليها، وهم خاصة من فئة المتقاعدين، حالة قلق، واكتئاب، واضطرابات نفسية جراء التعود على التردد عليها، حيث يجد هؤلاء الفراغ، ونوع من المضايقة النفسية تؤثر عليه داخل العائلة.

‫وقال بن حليمة، إن المقهى بمثابة ملتقى عام، يشمل جميع الفئات، وهي فضاءات للترويح والخروج من الضغوطات النفسية، حيث يشعر بعض زبائنها، بالارتياح، فهي مكان لنفض الهموم والمشاكل الاجتماعية، والأسرية، والتخلص منها بعد أن تتلاشى بإخراج المكبوتات، وتفريغها من خلال الاحتكاك بالآخرين.

‫وأكد خبير علم النفس، الدكتور بن حليمة، أن المقاهي لها تأثير نفسي إيجابي، عند زبائنها، لاحتلالها أهمية في ظل غياب فضاءات الراحة والترفيه، والنوادي، حيث أن لعب “الكارطة” و”الدومينو”، لدى المدمن عليها تروّح عن نفسه، وتمنحه، هدوءا وتبعده عن العدوانية.

‫وأشار، بن حليمة في الأخير، إلى أن المقهى، يعتبر عند البعض مكان رصد المعلومة، ولكن الشيء السلبي، حسبه، هو أنه أضحى مكانا أيضا للنميمة والمساس بالأعراض.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • ابن البلد

    ولم تتغاضوا عن مساجد لم تغلق منذ 14 قرنا و تم غلها ..

  • نمام

    لانتحسر غلقهم مؤقت ولكن احتلالهم للارصفة كتوسعة لمحلاتهم و ازعاج للمواطنين ودفعهم للطريق و مضايقة المارة وعسى ان نعود لهذه العادة اليوم لا ضجيج لاغانيهم وروائخ تبغهم و ازعاج المارة طبعا ليسوا و حدهم ولكن ما ناسق له عدم و جود ساحات عامة و سط التجمعات السكنية لبناء خيم لتوزيع مساعدات او ايواء ناس في حالة كوارث كفانا ارتجالية في قرارتنا و ليتحمل كل مسؤوليته وكفى لوما للدولة

  • معمر

    المقهى في الاصل مكان لتناول المشروبات وايضا للجلوس الى الاصدقاء من اجل تبادل الحديث
    ولكنه _ للاسف _ عند البعض مكان لقتل وتضييع الوقت . فكم من رجل اضاع واجباته الاسرية بسبب ادمانه على الجلوس في المقهى فلايلبي طلبات اسرته مما يضطر زوجته او امه او ابوه الى الخروج لقضاء تلك الحاجات .وهذا من سلبيات المقهى انه يغرس في نفوس البعض الكسل والتفنيين وقد تجد بعض هؤلاء لايصلح لشئ ..فالمقهى بصفة عامة سلاح ذو حدين قد يكون مفيدا للبعض ومضرا للبعض الاخر