-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل يمكن أن يكون الديمقراطيُّ انقلابياً؟

الشروق أونلاين
  • 1213
  • 0
هل يمكن أن يكون الديمقراطيُّ انقلابياً؟
ح.م

هل يمكن تشييد ديمقراطية دستورية على فعل غير دستوري؟ سؤالٌ جدير بالطرح لأنه يعود مرة أخرى إلى الواجهة اليوم وفي صيغة مماثلة تقريبا للصيغة التي ظهر فيها خلال وقف المسار الانتخابي سنة 1992. نعم، السياق مختلفٌ، وأكثر مسالمة لحسن الحظ. ولكن السؤال يفضي عند البعض، كما في السابق، إلى رفض الانتخابات، على الأقل على المدى القريب. لقد طُرح يومها في شكل معضلة: الاختيار بين الشرعية الدستورية وديمقراطية موعودة لكنها مؤجلة إلى أجل غير مسمى. إنه اختيارٌ مغلوط بدليل أنه لم يأت بحل بعد مرور 30 سنة كاملة. بالفعل، هل يمكن توليد الديمقراطية من عمل معاد للديمقراطية؟

برغم ذلك، يتمادى البعض اليوم في تقديم الشرعية الدستورية كنقيض للديمقراطية، معتقدا اعتقادا جازما بأن حلا دستوريا غيرُ ممكن حاليا، بل ويشكل عائقا أمام حل ديمقراطي حقيقي. لننظر في حجج هؤلاء.
إنهم يسمون “حلا سياسيا” مسعى غير دستوري ويقولون إن “الوضع الاستثنائي” هو الذي يفرضها، كأن حلا دستوريا ليس بحل سياسي… لا علينا. ثم ندرك أن المقصود من اقتراح ما يسمى “الحل السياسي” هو “نقل صلاحيات الرئيس المنتهية عهدته إلى لهيئة رئاسية تتشكل من شخصيات وطنية مشهود لها بالمصداقية والنزاهة والكفاءة تتبنى مطالب الشعب ويلتزم أعضاؤها بالامتناع عن الترشح أو الترشيح في الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة”. وبما أن تنصيب هيئة كهذه يقتضي وجود سلطة ما، يتم اللجوءُ إلى الجيش. بعبارة أخرى، يُطلب من هيئة دستورية، الجيش الوطني الشعبي، أن تقوم بتنصيب هيئة غير دستورية، وذلك في الوقت الذي كان يعاب فيه على السلطة ممارساتها غير الدستورية. هل استُنفِدت كل الحلول الدستورية قبل تصوُّر مخرج كهذا للأزمة الراهنة؟ في حالة العكس يبقى الخطر قائما للدخول في منطق انقلابي، بغضِّ النظر عن النيّات الحسنة المعلنة.

حراك أم ثورة؟

يقول أنصار ذلك “الحل السياسي” إن ما يجري الآن هو “ثورة” وأن الدستور غير مهمّ في هذه الأحوال بما أن الثورة تُنشئ شرعيتها الخاصة. إذن يجب تسمية هذه “الثورة”: عن أي ثورة يتحدَّثون؟ من جهته لا يتحدث الحراك عن “ثورة”؛ بالنسبة له وبالنسبة للشعب، لكافة الجزائريين، هناك ثورة نوفمبر 1954. هذه هي الثورة التي يحيل كلامهم إليها. يقول الحراك بشأنها: إنه يجب استكمالها وتوصيلها إلى نهايتها. إنه يستند إلى روح نوفمبر، إلى البرنامج الوارد في إعلان فاتح نوفمبر 1954 وإلى رسالة الشهداء. لا يتعلق الأمر إذن بثورة ثانية. وأما “الحراك” فهو، كما يدلُّ عليه اسمه منذ البداية، حركة، الحركة المندرِجة ضمن استمرارية نوفمبر.
من جهة أخرى، يقول الذين يتحدثون عن “ثورة”، دون الانتباه إلى التناقض، بأن على الجيش الوطني الشعبي أن “يرافقها” (يا له من تلطيف لغوي!). إذا كان باستطاعة الجيش أن يرافق “الثورة” فهو إذن “ثوري”، كما كان جيش التحرير الوطني الذي يقول الجيشُ الوطني الشعبي بأنه سليله. عندئذ، لماذا يتكلمون عن ثورة ثانية ما دامت هي ذات الثورة الوطنية التي يجب أن تتواصل حتى تحقيق أهدافها؟ أما إذا كان الأمر غير ذلك، أي إذا كان المقصود هو ثورة أخرى، فهي تعريفا لا “ترافَق” من أي طرف من الأطراف التي تنتمي إلى السلطة القائمة، إلى النظام الموجود، بما أنها تقوم بتبديلها جميعا وبكامل مركّباتها، لاسيما الجيش الذي هو، كما هو معلوم، نواة السلطة في كل مكان وزمان.

مشكلة محلولة

قيل إن الهيئة الرئاسية المؤقتة سوف تتكون من شخصيات “مشهود لها بالمصداقية والنزاهة والكفاءة وتحظى بثقة الشعب”: هكذا يفترض محلولا المشكل المزمع حله بالضبط. اللافت أن هذه الكيفية في التفكير المنافية للمنطق تتكرَّر عندنا. لنتذكر الجملة المشهورة التي أطلقها الرئيس بومدين والتي كان يفترض أن تحل كافة المشاكل: “الرجل المناسب في المكان المناسب”. كأنّ قول العكس جائز وكأن تحصيل الحاصل يقوم مقام البرنامج. من يختار هذا الرجل؟ وهل الذي يختار هو نفسه رجلٌ مناسب؟ كيف نعرف أن رجلا ما مناسبٌ لمكان ما إن لم يكن بعد أن شغله؟ وعليه، كيف نعرف أن أعضاء الهيئة الرئاسية المقترَحة يحوزون على كافة الصفات المطلوبة؟ الكفاءة، ما هو معيارها؟ شهادة الدكتوراه مثلا؟ في أيِّ تخصُّص؟ العلوم السياسية أم الاقتصاد أم علم الاجتماع أم الحقوق أم التاريخ أم ربما الكيمياء والفيزياء؟ إنه أمرٌ مثير للسخرية. كيف نعرف أن هؤلاء يتمتعون بثقة الشعب إن لم يجر التحقق منها عن طريق الانتخابات بالذات؟ هل نكتفي مثلا بعمليات تسويق سياسي كالتي يُقدِم عليها أناسٌ حاليا لفائدة مرشحيهم على الشبكات الاجتماعية ومختلف الوسائط أو من جمعة إلى أخرى؟

في الديمقراطية لا تكمن القضية في الكفاءة كالتي يحصل عليها الشخص إثر اجتياز امتحان أمام لجنة من المختصِّين، وإنما تكمن في نيل الشرعية من المحلف الجدير حقا والوحيد وهو صندوق الاقتراع. إن الشرعية الديمقراطية هي معيار الفرز بين الديمقراطي والانقلابي. منذ القِدم، يقول الانقلابي بأنه سوف يعيد العمل بالديمقراطية “بعد أن…”، وأنه سوف يعيد السلطة للشعب “بعد أن…”. إنه يفصل الغاية عن وسائل تحقيقها. وبالمناسبة، تعِدُ التدخلات الأجنبية دائما، هي كذلك، بالديمقراطية بعد أن تقوم بكذا وكذا.

إن من يريدون تعيين هيئة رئاسية من الأعلى يتحجَّجون بعدم ثقتهم في السلطة القائمة بخصوص تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة. حسنا. في هذه الحالة أليس من الأحسن تركيزُ كل الجهود على تشكيلة لجنة الانتخابات وعلى إعطائها جميع الصلاحيات بشأن تنظيم الانتخابات وتسييرها في كافة الدوائر؟ إنها المهمة الأكثر تماشيا مع طبيعة الحراك ذاتها، مع مهمته التاريخية الطبيعية، مهمة ترتيب نقل السلطة تحت رقابته إلى رئيسٍ منتخَب بكثافة عالية. لأجل ذلك يمكن إنشاء لجان اقتراع مكونة أساسا من عناصر من الحراك على كل المستويات، المحلي والولائي والمركزي.

ما عدا ذلك، يتعذر إدراك المنطق الذي يحكم إنشاء هيئة رئاسية تنفيذية مؤقتة هدفها تأمين مصداقية الانتخابات الرئاسية. وخلافا لذلك أيضا يتوجَّب على أصحابه تبديلُ الولاة وكبار الموظفين المكلفين بالانتخابات على المستويين الولائي والمركزي وكذلك مسؤولي الشرطة والأمن والجيش على هذين المستويين، ولِمَ لا رؤساء المجالس الشعبية الولائية والبلدية أيضا؛ باختصار تفكيك جهاز الدولة الحالية والمقامرة بمصير البلاد. ثم لنتساءل: من يستطيع القيام بحركة التغيير هذه في مختلف الأسلاك والمستويات إن لم تكن السلطة القائمة؟ إننا ندور في حلقة مفرغة.

كذلك قد يقع تحريف مكافحة الفساد الضرورية، هي الأخرى، ضد الديمقراطية ولغايات انقلابية في غياب الحذر والحيطة، كما وقع في أحيان كثيرة عبر التاريخ. لقد استخدمت المعارضات وكذلك بعض الدوائر في السلطة موضوع الفساد بكثافة ولغايات مختلفة. إن ميزة هذا الموضوع تكمن في كونه يفسح المجال لنيل مكاسب سياسية فورية دون الحاجة إلى تقديم تفسيرات. لا شك أن المستقبل كفيل بالفرز بين نصيب الفساد الحقيقي، بالمعنى الصحيح للكلمة، والنصيب الضخم للتبذير الاقتصادي الهيكلي الخاص بجميع الأنظمة القائمة على اقتصاد الدولة. غير أن شعار “الكل فاسد” لم يكن في يوم ما من حجج الديمقراطيين. ويجب الانتباه لكي لا يرتدّ لا على مستغليه فحسب وإنما أيضا على التطور الديمقراطي السليم والمسالم؛ فحتى بعض الذين استخدموا بكثرة وبلا هوادة موضوع “النظام الفاسد” يشتكون الآن من الاستغلال المحتمَل للكفاح ضد الفساد بغرض التعمية على “مهامّ الانتقال الديمقراطي” بل ويقترحون أيضا تأجيله إلى ما بعد تحقيق هذه المهام.

حجة زوال الدستور بسبب انتهاكه في العديد من المرات حجة مردودة هي كذلك؛ فإذا كان الدستور غير محترم وكان هذا سبب مصائبنا، يجب إذن أن نستخلص منه الدرس المعاكس له بالضبط وذلك برفض مثل هذه الممارسات. ويكون هذا الرفض، لا كما يقال “مستقبلا بعد إقامة الديمقراطية”، وإنما منذ الآن وإلا أين المصداقية؟ البعض لم يتوقف، منذ أعوام، عن الضغط على الجيش كي يقوم، حسب تعبيرهم بـ”آخر انقلاب”، انقلاب لصالح الديمقراطية. ولكن هل يمكن للديمقراطي أن يكون انقلابيا؟ بالنسبة للديمقراطي، الديمقراطية قضية شكل ومضمون معا، بحيث تتناسب الوسائل المستعملة مع الهدف المنشود. في القانون، في دولة القانون، الشكل يكشف المحتوى، يبلوره ولا ينفصل عنه بأي حال من الأحوال. الانقلابي يهتم بالسلطة في حين ينشغل الديمقراطي بالوسائل الموظفة للوصول إليها.
لوقف السلسلة الطويلة من الانقلابات التي شهدتها الجزائر، يجب ببساطة الامتناع عن القيام بالانقلاب.

* ترجمه من الفرنسية أحمد رضوان شرف الدين

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!