آخِـرُ الـدواء …
ظهر الفساد في البر والبحر و ” الجـو ” كما قال أحد الزملاء في ” الشروق ” ذات يوم ، ولم يعـدْ للساسة من حديثٍ في مختلف بلدان العالم سوى حديثِ تشكيل لجان ، وسـن قوانين ، وملاحقة مفسدين ، وصار الكلام عن الصلاح والمصلحين شيئاً من المـاضي ، حـتى إن ” كتاباتِ ” بعضنا مسها طائف من الفساد فأصبحت تتنكر لجهود أعلام الأمـة ورموزها وتغمطهم حقهم ، وتعيد تقديمهم للناس ــ بعد أن اعترف بهم العالم بأسره ــ مجرد مرتزقة متسلقين وصوليين ، وتنعـَتُ من ينحاز لهم بضعـف الثقافة والمتاجرة بالدين ، وتـتجـه إلى إبراز فكر مفسديها والإشادة به بمبرر مناهضة الرأي المتحجـر ، ومناصرة الفكر المتنور، وتـُقـدم للقـراء سمومَ فاسدي الفكـر ممزوجة بالشهـد والعسل ، مُغلفـة بالاستعطاف والتباكي ، مَشُوبـة بالتضامن والتآزرالمذهبي !
- لن أحدثكم هـنـا عن فساد ” البر ” ، فلديكم من الأمثلة ما يكفي لإصدار جريدة يومية على مدار السنة بعنوان ” الفـساد اليومي ” تـُعْـنى بشؤون المفسدين في الأرض ــ براً وبحراً وجواًّ ــ عـبر العالم :
- من أفقر بلد في الدنيا : أفغانستان ، حيثُ تؤكـد التقارير الواردة من هناك أن الأفغان ــ كبيرهم وصغيرهم وفقيرهم ولا أقول غنيهم ــ يدفعون سنوياً رشى بمبلغ مليار دولار لقاء حصولهم على خدمات عامة كالتعليم والصحة واستخراج وثائق الهوية ، بحيث بـلغ متوسط قـيمة الرشـوة في أفغانستان 180 دولار ، وهو ما يساوي أجر عدة أشهر لموظف أفغاني !
- إلى العـراق ” المغلوب على أمره ” الذي يتخبط في فـساد ديني وعرقي وديمقراطي وقانوني لا مثيل له ، أدى بالبلد الذي ظهرت فيه ” شريعة حمورابي ” كأول قانون في التاريخ إلى أن يَـسـن قوانينه على الهوى ويشـرعها حسب رغبات أطرافٍ إقليمية ودولية من أجل الحفاظ على الكرسـي والبقاء فيه ، مما أهَّـلَ العراق لتبوء المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم للسنة الخامسة على التوالي !
- إلى فلسطين المحتلة التي ترزح تحت نير فساد ” أخوي ” ، و تفاوضي ، وسياسي ، ومالي ، أدى بالحاج رفيق النتشة ، رئيس هيئة مكافحة الفساد الفلسطينية إلى التصريح بأن هيئته تلقتْ أطناناً من التقارير والشكاوى ، ولذلك فهو لا يعكف حالياً على إحصائها لأنها لا تعـد ولا تحصى ، وإنما يعكف على تبويبها وتنظيمها وترتيبها وتصنيفها وفق فهرس الفساد الذي يمكن أن تـُدرج تحته !
- إلى الشقيقة الكبرى مصر : ” أم بقشيش الدنيا ” ، التي يستشري فيها الفساد من صغار الموظفين إلى كبار المسؤولين ، مروراً بأبناء الأسرة الفرعونية الحاكمة ” الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ” ، حتى أن إحدى الصحف المصرية أطلقت على مصر تسمية ” واحة الفساد في الشرق الأوسط ” !
- إلى البلد الصديق ـ اللدود : فرنسا ، حيث تطال حملة مكافحة الفساد فيه رموز الدولة الفرنسية الحديثة مثل شيراك وحليفه دوفيلبان ، لتشمل دون أية عقدة رأس الدولة نفسها ، الرئيس ساركوزي ، المتهم بالتورط في فضيحة مالية مـع ” ليليان بتانـكور ” مـالكة مجـموعـة ” لوريال ” ، والتي سبقتها استقالة وزيرين من الحكومة على خلفية قضايا تتعلق بهدر المال العام !
- وحتـى لا أدرَجَ في قائمة واحدة مع ” الجَمَل الذي لا يرى سنامه ولا يبصر حدبته ” كما يقول المثل الجزائري ، أصِـلُ بكم إلى بلدنا الغالي الحبيب ، أيـن اهتز عـرش البقرة الحلوب “سوناطراك “على وقع فضيحة عصفت بالأخضـر واليابس ، وأدت إلى شروع ” الأيدي النظيفة ” في ملاحقة ” الأيدي القذرة ” من خلال إطلاق حملة لمكافحة الفساد تعـززت بإعلان حالة طوارئ على طوارئ ، وإنشاء لجان متخصصة وسـن قوانين رادعة .. ومن غير المستبعـد ـ كما جرت العادة عندنـا ـ أن تـُتوج حملة النظافة هـذه بتفعـيل ” المرصد ” الذي سبق الإعلان عنه قبل أشهر ، يُـزوَّدُ بتلسكوبات ضخمة يَرصُـد من خلالها حالات الفساد وهي في الأفـق قبل ثبوت رؤيتها على الأرض ، بحيث لا يقـل فـعالية ً عـن مـرصـد هـابـل الـمتخصص في ” ملاحقة المذنبات ” في الفضـاء !
- فسادُ البر هذا ، لا تـَسَعُه مساحة ” نصـف خبـر ” ، ولا تكفيه سـوى جريدة يومية متخصصة في أخبار الفساد أقـترحُ أن تصدُر عن مرصد ” هابـل ” المتوقع إنشاؤه عندنـا .. أما فساد البحر فأمامكم شواطئنا العـذراء وقـدْ صارت مصباً للمياه القذرة التي تنبع من ” مختلف المصادر ” وتأتـي من كل الاتجاهات ، ووراءكم التسونامي الذي أغرق مـدناً بحالها في آسيا والمحيط الهادي وسيمضي في إغراقهـا ، ومن حولكم مأسـاة التسرب النفطـي في خليج المكسيك التي عجزت أقوى دولة في العالـم أن تـُنهـيهـا !
- دَعـُونا إذن من فساد البر والبحـر ، ولـْنتحدثْ عن فـساد الجـو ، فالكتابة عنه أضمَـنُ لي ولكم وللجريدة ،، فـمن المؤكد أنكم لاحـظتم موجة الحر الشديد غير المسبوقة والتي بدأتْ منذ سنوات وبلغت أوجها هذا الصيف ، حيث تتوقع مراكز الأرصاد العالمية أن يكون هذا العام هو الأشد حـراٌّ في تاريخ البشرية من خلال ظهور تغيرات مناخية غير معتادة في الكرة الأرضية أدت إلى هبوب أعاصير في غير وقتها ، وهطول أمطار في غير زمانها ومكانها ، مما يخلط حسابات هذه المراكز العلمية ويُصعِّـبُ عليها مهمة التكهن بالأعوام المقبلة التي أصبحت نسبة دقـةِ صحتِها لا تتجاوز 10 بالمئـة !
- خبراء ” الأهـوال الجويـة ” يعـزون ” فساد الجـو ” وارتفاع الحرارة إلى ذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي وفي غرينلاند وجبال الهملايا بشكل أسرع مما كان عليه ، لدرجة أن من آتاهم الله سَعـة الخيال في هوليود صَبُّـوا اهتماماتهم السينمائية كلها في موضوع واحـد : موضوع نهاية الحياة على كوكب الأرض بالتهابها ، وصار شكل الأرض في مُخيلاتهم أقرب ما يكون لشكل كرة ملتهبة ، استناداً للحقيقة العلمية القائلة : عندما تتجاوز حرارة عصرنا هذا 50 درجة تحت الظـل ، فهذا يعني أن أي شيء تحـت الشمس سيكون عرضة للاحتراق بما في ذلك مياه البحار والمحيطات !
- شيء مَهول ومرعب … لكن انتظروا أيها السادة ، سأزيدُكم من الشعر بيتاً ومن الخوف رجفـة :
- في الخليج العربي ” وهي المنطقة ــ المقياسُ عالميا ” بلغـتْ درجة الحرارة هذا العام رقماً غير مسبوق بأكثر من 55 درجة مئوية وقـت الظهيرة ، وهو أمر غير معتاد في المنطقة جعـل الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار بالديوان الملكي السعودي ، يُفتي بجواز تأخير صلاة الظهر إلى آخـر وقـتها حتى تبرد الشمس ، بناء على قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا اشتد الحـر فأبردوا في صلاة الظهر ، فإن شدة الحر من فـيح جهنم ” ، واستناداً إلى ما يـورده رواة الحديث مـنْ أن ” المؤذن قام ليؤذن في شدة الحـر لصلاة الظهر ، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : أبـرد ، أبـرد ” ، أي إنتظر حتى يبرد الحر ، وأمر بتأخير وقت الظهـر ، مع أن الحرارة بالتأكيـد لم تكُ تبلغ يومئذٍ ما بلغتـه اليوم .. وأخشى أن يتلقف ” دعاة التنويـر ” هذه الرخصة الشرعية فيتدخلوا في ما لا يخصهم وما ليسوا معـنييـن به ، فيطالبوا ” من باب الاجتهاد ومناهضة التراث المتحجـر وحقوق الإنسـان ” بتأخير شهر رمضان إلى شهر ذي الحجة !
- ومع أن ظاهرة الاحتباس الحراري نظرية علمية لم تثبت بعـدُ بسبب ارتباطها بأمور سياسية واقتصادية أكثـر منها بحقائـق علمية تجعلها بعيدة عن تحمل مسؤولية الفسـاد ” الذي ظهر في الجـو ” ، فمن المؤكد أن البلدان المصنعة تتحمل بقسط كبير عِبءَ ما سيلحق بالكرة الأرضية من أضرار ، بدءاً من أمريكا سيدة العالم التي ترفض الانضمام لاتفاقية وبروتوكول كيوتو ، وليس انتهاءً بالدول المنتجة للبترول التي ابـْتـُكِـرَ ” كيوتو ” لكبح جماحها بخفـض أسعار نفطهـا !
فاصل قصير :
بخلافِ ما ستفهمونه أيها السادة : أنا لا أدعـو أبداً إلى الخوف ، فأنا أخافُ حتى من ” قــلـَمي ” في كثير من الأحيـان ، ولا أبشـر بالكراهيـة ــ كما قيل لكم ــ فأنا أخشى من قـلـْبي المُستعـد للحب على مدار الساعـة ، ولا أحـرضُ على القتـل ــ كما وُصِـفـتُ ــ فأنـا كما يعرفني الجميـع لا أجرؤ على قـتـل ناموسـة ، لكنني أرى أنَّ جهنمَ في عجلةٍ من أمرها ولم تعُـد تطيق صبـراً أمام ظهور حالاتِ فسادٍ بري وبحري وجـوي وفكـري غير قابلة للشفـاء ، وآخـر الـدواء كما يـقـال : جـهـنـم … لا ، بـل آخـرُ الـدواء الكـيّ ! - souleymen@maktoob.com