-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أسباب فتنة آخر العمر

سلطان بركاني
  • 1339
  • 0
أسباب فتنة آخر العمر

فتنة آخر العمر، عقوبة عاجلة يسلّطها العدلُ سبحانه على بعض عباده، بما كسبت أيديهم، وهي فتنة مخيفة ومرعبة، تخاف منها القلوب الحيّة التي تسأل الله -عزّ وجلّ- العافية والثبات حتى الممات.. هذه الفتنة لها أسبابها، والله الحليم الرّحيم لا يظلم أحدا، ولا يفتن إلا من استحقّ الفتنة، ((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)).

من أعظم أسباب فتنة آخر العمر: الإصرار على ظلم النّاس؛ فقد يظلم العبد أخا أو قريبا أو جارا، فيدعو المظلوم ربّه بأن ينتقم له من ظالمه، فيمهل الله الظّالم ويؤخّره وهو يظنّ أنّه قد نجا، وربّما ينسى فعلته، حتّى إذا كان في آخر عمره، خذله الله ووكله إلى نفسه، فتسلّط عليه شيطانه، وأصبح -هو الآخر- شيطانا يمشي على الأرض، يحصد الذّنوب والسيئات حصدا، ويرتكب من محبطات الأعمال ما يمحو كلّ حسنة عملها قبل ذلك.

ومن أسباب فتنة آخر العمر كذلك: الإصرار على الذّنوب والمعاصي والمنكرات في وقت الشّباب والقوة، وتسخير الجوارح في معصية الله.. يحفظ الله للعبد عقله وعينيه ولسانه وأذنيه ويديه ورجليه وكلّ أعضائه، وبدلا من أن يشكر الله ويسخّر جوارحه في طاعة الله والإحسان إلى عباد الله، إذ به يسخّرها في معصية الله؛ في تتبّع الشّهوات، وفي أذية عباد الله وظلمهم، فيكون جزاؤه أن يخذله الله ويخزيه في آخر عمره، فربّما يسلبه النّعم التي لم يحفظها، وربّما ينزع منه بركتها فلا ينتفع بها في دينه ولا دنياه، وربّما يتركه للشّيطان يحرّضه على عصيان الله بجوارحه في أرذل العمر.. وفي مثل هذا قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها” (البخاري ومسلم).

ومن أسباب فتنة آخر العمر أيضا: ذنوب الخفاء والخلوات؛ حين يُظهر العبد للنّاس الصّلاح، فيصلّي في المسجد ويتكلّم بين النّاس بكلام الأبرار، وربّما يذهب للعمرة، لكنّه إذا خلا بنفسه أو كان في مكان لا يعرفه فيه أحد عمل أعمال الفجّار وبارز الله بالمعاصي واستهان بنظر الخالق -سبحانه- إليه، وارتكس في الشّهوات والمعاصي والمنكرات.. وليٌّ لله في العلن، ووليّ للشّيطان في السرّ، وفي التحذير من هذه الحال يقول التابعي بلال بن سعد -رحمه الله-: “لا تكن ولِيّا للَّه في العلانية وعدوّه في السّرّ، ولا تكن عدوَّ إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم فِي السِّرِّ”.

المخيف، أنّ أسباب هذا الدّاء قد توفّرت وتكاثرت في زماننا هذا؛ فقد تجد المسلم ينشر على مواقع التواصل الخير ويحضّ عليه ويدعو إليه، لكنّه إذا خلا بنفسه خالف ما يدعو إليه وينصح به.. في العامّ مسلم تقيّ، وفي الخاصّ فاجر شقيّ؛ يختان ويخون وينظر إلى المحرّمات ويكلّم النّساء ويخضع لهنّ بالقول ويستدرجهنّ إلى حبائله: ((يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)) [النساء: 108]، يظنّ أنّه يخادع النّاس، وهو لا يخدع إلا نفسه. يستخفي من مخلوقين لا يملكون له ضرا ولا نفعا، وينسى نظر الخالق العليم القدير الذي ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) [غافر: 19]، وهذه الآية الأخيرة مرعبة لو كانت لنا قلوب، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: “((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)): هُوَ الرّجل يدخل على أهل البيت بيتهم –سواء كان بيت جاره أو صديقه أو أحد أقاربه- وفيهم المرأة الحسناء، أو تمرّ به وبهم المرأة الحسناء، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غضّ، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غضّ بصَره عنها، وقد اطّلع اللّه من قلبه أنّه ودّ أن لو اطّلع على فرجها”.

ذنوب الخلوات من أعظم أسباب الخذلان والتعرّض للفتن، ومن أعظم أسباب الانتكاس والنّكوص والضلال بعد الهدى؛ فكم من النّاس من كان ظاهره الصلاح وكانت لا تفوته صلاة في المسجد، وكان يتلو القرآن ويتحدّث في الدّين، لكنّه تبدّل فجأة وانتكس، وترك الصلاة في المسجد وهجر القرآن، ومال إلى صحبة التائهين وأهل الغفلة وربّما أمسى يستهزئ بالمصلين.. وكم من فتاة كانت تلبس الحجاب الواسع وتصلي الصلوات الخمس وتتلو القرآن، إذ بها فجأة تترك الحجاب وتلبس الموضة وتترك الواسع وتلبس الضيّق وتضع المساحيق والأصباغ والعطور، وتتمايل في مشيتها وتمزح مع الذّكور، بل قد يصل بها الأمر إلى أن تستهزئ بالمحجّبات والصّالحات وتصفهنّ بالمعقّدات والمتخلّفات!

والسّبب في هذا التبدّل، هو -في كثير من الأحيان- ذنوب الخلوات، وقد قال الصّالحون قديما: “ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات”، وقال ابن رجب -رحمه الله-: “وخاتمة السّوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطّلع عليها النّاس”.

لذلك، حافظ- أخي المؤمن- على صلاتك، وعلى تلاوة القرآن، وحافظ على سمتك الحسن، وحافظي- أيتها المؤمنة- على الحجاب الواسع وعلى لزوم حلقات القرآن، وانصح أخي المؤمن غيرك بالخير والعمل الصّالح، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر. لكن احذر أشدّ الحذر أن تقيم على معصية من المعاصي في خلوتك لا تريد أن تتوب منها ولا تندم عليها ولا تسأل الله العون على تركها. يقول ابن الأعرابي -رحمه الله-: “أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح مَنْ هُوَ أقربُ إِلَيْهِ من حبل الوريد”.

إنّنا جميعا مدعوون لنحذر فتنة آخر العمر على أنفسنا وقلوبنا.. فلا يأمن هذه الفتنة على نفسه أحد، مأموم ولا إمام، عاميّ ولا طالب علم، صغير ولا كبير، ذكر ولا أنثى. حتى من يصلّي الصلوات الخمس في بيت الله يجب عليه أن يحذر فتنة آخر العمر على نفسه، فربّما يفتن بسبب معصية يستخفي بها، وقد يفتن بسبب دعوة مظلوم أصابته، وقد يفتن بسبب كبره وغروره، وقد يفتن بسبب حرصه الشّديد على الدّنيا وكثرة خصوماته لأجلها، وقد يفتن بسبب ردّه حكما من أحكام الشّرع، تقول له: يا فلان هذا حرام، فيقول لك: “ما كانش منها”، أو يقول لك: “آو الكلّ وليتو تفتيو”.. وقد يفتن العبد في آخر عمره بإصراره على لقمة الحرام؛ يسمع أنّ الرّبا حرام فيصرّ على أخذه وإعطائه والمعاملة به. يعلم أنّ بيع الدخان حرام فيظلّ مصرا على بيعه، ويعلم أنّ التهاون في العمل والوظيفة حرام فيظلّ مصرا على إضاعة عمله، ويعلم أنّ الغشّ في التجارة وتوجيه السلعة حرام، فيظلّ مصرا على الغشّ وتوجيه السلعة… وهكذا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!