-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أولوية المحلي على العالمي في عملية الإصلاح

أولوية المحلي على العالمي في عملية الإصلاح
ح.م

لا أحد ينكر أنه من طبع البشر والكيانات والدول والتنظيمات أنها تؤثر وتتأثر بالمحيط الذي توجد فيه، سواء كان داخليا أو إقليميا، مجاورا أو عالميا، وتختلف أشكال التفاعل والتأثير والتأثر حسب الأفكار والخلفيات وطبائع هذه التنظيمات ورؤيتها للإصلاح.

ولعل أهم العوامل التي ساعدت على هذا الاحتكاك الفكري والديني والايديولوجي على الساحة العالمية هي:

– بقايا الاستعمار وممثليه في البلدان التي حصلت بعد ذلك على الاستقلال والتي حاولت بعض النخب أن تضمن التواجد الاقتصادي والثقافي للمستعمر في بلدانها.

– البعثات التعليمية وبخاصة تلك التي كانت من دول العالم الثالث تجاه العالم المتقدم، والتي يحتك فيها الراغبون في الحصول على الشهادات العلمية كهدف أولي وأساسي يحتكون بحضارة الآخر وفكر الآخر والمشاريع الإصلاحية للآخر إما بالتبعية العاطفية أو بالميول الفكرية والقناعات فيحاولون نقل هذه التجارب إلى مجتمعاتهم الأصلية.

– الهجرة سواء كانت طواعية أو لأسباب مختلفة كالرِّزق والتنقل، أو غير طوعية كالنفي وطلب اللجوء والتهجير، وهذه تولد شعورا قويا ورغبة واندفاعا كبيرين في الاحتكاك بالآخرين وتجاربهم الحياتية والاصلاحية تدفعهم روح تغيير مجتمعاتهم التي خرجوا منها طوعا أوكرها.

– الملتقيات الفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تقام في الداخل والخارج إذ تكون بمثابة سوق لعرض مختلف الأفكار والقناعات والمشاريع، والتي يتأثر بها الكثيرون نتيجة الاحتكاك والنقاش ومحاولات الاقناع من هذا الطرف أو ذاك.

– العمل الاستخباراتي الذي يحاول أن يصدر الأفكار والمشاريع داخل المجتمعات لضمان نفوذ وسطوة وهيمنة الدول الكبرى، وذلك بغرض صناعة الأتباع والموالين لثقافة أو لمشروع ما وتطبيقه في المجتمعات المقصودة والمستهدَفة، وقد شهد عالمنا العربي والإسلامي عديد هذه المحاولات وطُبِّقت على دولنا وشعوبنا الكثيرُ من المشاريع والبرامج في السياسة كما الاقتصاد والثقافة والفن والتي أطلق عليها: “مشاريع إصلاح” والتي لم تكن في الحقيقة سوى مشاريع مستورَدة وجاهزة.

– السياحة وبخاصة العلمية والدينية والفكرية اتجاه الشرق والغرب والتي مكنت وساعدت على كسر كل الحواجز السياسية والفكرية بين دول عالم اليوم الذي لم يعد يؤمن بالحدود أو المنع أو التضييق، فأصبحت المشاريع الإصلاحية المختلفة عابرة للحدود والأنفس والذهنيات وخلقت نقاشا تارة ومقاومة وصراعا تارة أخرى.

– ارتفاع منسوب الوعي والتعليم والذي سهّل عملية الاحتكاك بالآخر والقراءة للآخر ومناقشة الآخر والتأثر بالآخر وبمشاريعه الإصلاحية وتجاربه الناجحة، وصولا إلى استيراد تجربته ونقلها للمجتمعات المحلية نقلا مباشرا من دون إضافة أو نقصان، والتي تأخذ مسمِّيات عديدة تارة باسم “تراكمية العلوم والتجارب” وتارة باسم “العولمة” و”حوار الحضارات” وتارة أخرى باسم “إرث الإنسانية المشترك”.

– التكنولوجيا التي جعلت من العالم قرية صغيرة وفتحت عالم الأفكار والمشاريع على مصراعيه، كسرت الطابوهات جميعا، فأصبح كل شخص في مساحته الافتراضية رئيس تحرير نفسه، مما زاد من الاحتكاك الفكري والنقاش بين مختلف الحساسيات وأصحاب المشاريع باختلاف توجُّهاتها ووسائلها وبرامجها، لكن النقطة المهمة والفارقة هي أن أغلب هذه النقاشات متمحورة حول مشاريع وأفكار وطروحات مستورَدة من الخارج، وهنا تكمن نقطة الحرج بل والخطر.

خلاصة هذه العوامل أنها أثَّرت في ملَكة الإبداع المحلي وأنقصت من روح الإنتاج الذاتي القائم على صناعة تجارب محلية وبمقدرات ذاتية ناجحة وبارزة كما تفعل كل المجتمعات، فما يصلح في عالم البضائع والسلع ومنطق الاستيراد والتصدير والعرض والطلب قد لا يصلح دوما في عالم الأفكار والمشاريع الإصلاحية.

لكن تجدر الإشارة والتنبيه إلى أن استيراد المشاريع -والذي أعتبره خطأ استراتيجيا قاتلا-ليس على درجة سواء في التعامل مع الظاهرة، وعليه يمكن تصنيف أصحاب هذا الطرح إلى الفئات الثلاث التالية:

فئة معطلة التفكير جامدة الإبداع غير مقدِّرة للمواهب الذاتية لدولها وشعوبها، تستورد ما تسميه مشاريعَ إصلاحية من دون تكييف أو تعديل أو تصحيح أو إضافة أو نقصان، ومآل هذه المشاريع المستورَدة كما البضائع عادة الفشل الذريع، وهذا ما تفعله أنظمة العالم الثالث التي بنت منظومتها على القمع والاستبداد ومحاربة الابداع والعلم وأهله بالاكتفاء باستراد كل شيء، وللأسف نجد أن هذا المنطق انسحب على عديد التنظيمات السياسية وأصحاب المشاريع الإصلاحية التي انخرطت بدورها أيضا في منطق الاستيراد الأعمى ضمن التأثر بأمميات مختلفة سواء كانت إسلامية أو شيوعية أو رأسمالية (تبعية قاتلة ومعطلة) فتستنسخ تجارب الآخرين على مجتمعاتها.

فئة أخرى انخرطت في منطق استيراد التجارب الإصلاحية لكنها حاولت في الوقت نفسه أن تقوم ببعض التعديلات والتكييف مع ثقافاتها المحلية وخصوصياتها الفكرية والثقافية، لكنها للأسف الشديد انطبق عليها منطق ما ترويه “قصة الغراب والحمامة” فلا هي نجحت في تكييف مشاريع هي في الأصل مشاريع صاغها الآخرون وأبدع في تطبيقها أصحابها، ولا المشاريع الأصلية التي تم استيرادها حملت بذور التعايش مع بيئات أخرى مختلفة، لأن البناء المحلي مهما كان صعبا إلا أنه يبقى ممكنا ومتاحا أمام صعوبة بل استحالة تكييف وتطويع مشاريع إصلاحية وضعها أصحابها لزمان غير زماننا وبيئات غير بيئاتنا.

فئة تطرَّفت تطرُّفا عكسيا في التعامل مع المشاريع الإصلاحية الخارجية وهي تناصبها العداء والتحذير منها دفعة واحدة وبيان عيوبها ومساوئها ومخاطرها والعيش في بيئة مغلقة وفضاء منعزل لا إبداع فيه ولا مبادرة، فمن غير الممكن في عالم اليوم استعداء كل ما هو جديد أو خارجي، فتاريخ البشرية قائمٌ على فكرة التراكمية والاحتكاك والاستفادة من تجارب الآخرين فلا الرفض المطلق مقبول ولا النقل الحرْفي معقول.

إنَّ من أساسيات نجاح المشاريع الإصلاحية، بل ومن شروط نهضتها واستمرارها في الزمن والجغرافيا، أن تكون مشاريع منبثقة من بيئاتها الداخلية ومعتمدة على مقدراتها المحلية مادية كانت أو معنوية آخذة بعين الاعتبار خصوصياتها الفكرية ومحطاتها التاريخية وطبيعة تركيبتها الديمغرافية وسماتها السوسيوثقافية، عوامل تلعب جميعا دورا أساسيا في بلورة المشاريع وإنفاذها وهكذا فعلت كل الحضارات القوية والمتعاقبة في كل التاريخ الإنساني، مع الإقرار أنها من النقاط الخلافية بين كثير من العاملين والمهتمين بمشاريع التغيير والإصلاح.

ولذلك سأحاول أن أعدد بعض الحجج والأدلة عن قوة هذه الفكرة التي أصنفها كواحدة من أبرز وأهم قواعد الإصلاح:

المشاريع الإصلاحية المنبثقة من بيئتها وغير المستورَدة هي تعبير عن السيادة في الوجود والاستقلالية في القرار، وبأنها مجتمعاتٌ لا تأتيها المشاريع من الخارج ولا الاملاءات من القوى المهيمنة تحت مسميات جاذبة من قبيل “تبادل الخبرات” و”حوار الحضارات” و”تلاقي الثقافات”.

المشاريع الإصلاحية المحلية هي تعبيرٌ عن الإبداع في خلق مشاريع بديلة في النهوض بالمجتمعات والشعوب على كافة الأصعدة، كما أنها دليلٌ واضح على القدرة والكفاءة في صناعة قصص نجاح، وقد أثبتت التجارب عبر التاريخ البشري القديم والمعاصر أن أغلب المشاريع التي نجحت إنما هي المشاريع التي كانت ابنة بيئتها وعلى يد وأفكار أبنائها طبعا من دون التنكر للمشاريع المختلفة الموجودة تنسيقا واستفادة ودراسة لا تبعية وانقيادا لها.

هي تعبيرٌ أيضا على حياة هذه المجتمعات المليئة بالمواهب والاطارات، وأنها تصلح كبيئات صانعة للتغيير وبأنها مجتمعاتٌ قادرة على المنافسة والدخول إلى عالم الكبار، فالمجتمع يجب أن يضع نخبه بنفسه وباحثيه ومفكِّريه ومنظِّريه ومختلف الكفاءات والإطارات في شتى مجالات الحياة المادية منها والمعنوية.

هي مجتمعاتٌ خصبة وبيئة حاضنة للتغيير والإصلاح وليست مجتمعات على الهامش حتى وإن ضعفت أو خمدت نارها لكن بذور التحضر وبوادر النهوض موجودة، فهي بيئة مستعدة دوما للانتفاضة متى ما توفرت مشاريع جادة للإصلاح الحقيقي والتغيير المنتج.

كل الحضارات القائمة حاليا إنما انطلقت من تجارب ذاتية ومشاريع محلية بأدوات إبداعية خاصة انصهرت ضمن منظومة متكاملة وشاملة وناجحة في الوقت ذاته.

منطق تصدير الأفكار والمشاريع قد يكون مستصاغا، أما استيرادها فهو من تمظهرات الضعف والنقص.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!