-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أي قيم سَيَحمِل جيلُ الغد؟

أي قيم سَيَحمِل جيلُ الغد؟

جيل ما قبل الاستقلال كان يحمل القيم الوطنية بلا منازع، بكل ما في الوطنية من معانٍ: دين، لغة، انتماء حضاري، تطلع للحرية، افتخار بالأمجاد… وقِس على ذلك. كان الاستعمار الفرنسي هو التحدي الأول والأخير.. نحن لسنا فرنسيين، ومَن تَجَنَّس فقد باع دينه ووطنه…
جيل ما بعد الاستقلال بقي حاملا لهذه الشُّعلة المُتَّقِّدة في النفس، حَالِمًا أنْ تَتَحقق ذات يوم. أنْ تَتَحقق العودة إلى الذات، وتُقام العدالة الاجتماعية، ويتم إعلاء كلمة الدين، ولا يحصل أي تأخر في نصرة القضايا العادلة، ولا تُقبَل أي مساومة مع عدو الأمس.
وكانت محاولة بناء المؤسسات الوطنية من قبل رجال مخلصين ونساء مخلصات، أوفياء لتضحيات الشهداء. لم يكن هناك تكالبٌ مفرط على المادة ولا على مغريات ما بعد الاستقلال. مازال الناس يتذكرون جحيم الاستعمار. لم تكن قد مَرَّت سوى سنوات قليلة على استعادة السيادة الوطنية. كان الشعور بالحرية كافيا لملء نفوس الناس عزة وكرامة. ورغم الفقر وقلة الحيلة لم تكن الفوارق الكبيرة قد برزت بعد، ولا كان الأغنياء الجدد بقادرين على التَّباهي بممتلكاتهم. أَيُّ تباهٍ كان سيُتبَع بسؤال من أين لك هذا؟ وأين كُنتَ أثناء الثورة؟ لم تكن السنوات قد أنْسَتْ الناس مَن يكون هذا ومَن يكون ذاك؟…
عشرون سنة من بعد، بدأ تحوُّلٌ كبير على مستوى القيم. مع البدايات الأولى للانفتاح الاقتصادي، بدأ اللهث وراء مغريات الحياة. وأصبح بإمكان الثراء أن يكشف عن وجهه. ولم تعد قيمة التضحية تَجد آذانا صاغية. عرف الناس لأول مرة اللاتناسب الطردي بين الثورة والثروة. الذين كانوا وقودَ الثورة، لم يكونوا من بين المستفيدين من الثروة.. والذين كانوا يجاهدون باسم الدِّين والوطن، وجدوا الدِّين قد زُحزِح من الحياة، والوطن لم يَعد يأبه بهم. فكان الاحتجاج الاجتماعي وكانت العودة إلى منبع كل القيم، إلى الدين: الإسلام هو الحل.
ولم يكن صعبا فهم المعادلة: أي انتصار للدين سيعيد ترتيب كافة القيم، ويعيد تشكيل كل المجتمع. لذلك جرت عملية تشويه كبيرة للدين ليُحرَّف عنوة من كونه مصدرا للقيم إلى مُصَدِّر للإرهاب…
عشر سنوات من بعد، تم إحداث شرخ كبير في القاعدة القيمية للأمة، لِيُشرعَ في تنشئة جيل عبر التلاعب بكافة القيم. وبدأ الغموض يحل محل الوضوح، وانتشر سؤال مَن نحن بدل سؤال: كيف نعيد بناء الذات بعد تحريرها من المستعمِر؟ بل وأصبحت كافة القيم السامية محل سؤال: الدين؟ الجنسية؟ اللغة؟ الثقافة؟ التاريخ؟ وكان البديل جاهزا: القيم العالمية! الديمقراطية الليبرالية! اللائكية!
وكأننا سلّمنا على خلاف شعوب الحضارات التاريخية بالخضوع لقيم العولمة الغربية. وكأننا قَتلنا ذلك الطموح بأنَّنا يُمكِن أن نكون بديلا آخر لهذه العولمة المُتهالكة مثلما فعلت الحضارة الصينية أو الروسية أو الهندية أو بدأت تفعل اليوم الحضارة الإفريقية الناشئة. وكأننا قبلنا بالانسلاخ من وعائنا الحضاري لنرضى بأن نكون ديكورا غير ملائم على هامش الحضارة الغربية المتهالكة. وكأننا قبلنا بكذبة انتصار العولمة الغربية ونهاية تاريخ الإنسانية!
إنها مشكلتنا الأساسية، وكيفية التعامل معها هي التي يستُحدِّد خيارنا المستقبلي: إما بناء دولة مركزية في نطاق عمق انتمائنا الحضاري وقيمنا الوطنية كما ضحى من أجل ذلك الشهداء، أو القبول بأن نكون ضمن بقايا عولمة رأسمالية ليبرالية غربية كانت سببا في إذلالنا لأكثر من قرن، وقتلت الملايين من آبائنا، وأجدادنا، والأخطر من ذلك هي الآن تسعى لفرض قيمها المريضة علينا باعتبار أن تلك هي الحضارة وذلك هو المستقبل وما دون ذلك هي قيمٌ بالية تعلق بها ذات يوم الأجداد ولا تصلح لجيل الغد من الأحفاد.
(نُشر سابقا)

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!