-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الدعوة إلى استعمال العامية في التدريس

إحياء لمشروع استشراقي استعماري قديم

خير الدين هني
  • 749
  • 0
إحياء لمشروع استشراقي استعماري قديم

الدعوة إلى استعمال العامية في التدريس، مشروع استشراقي استعماري قديم، الغاية منه تجهيل الأمة بأصول لغتها وعلومها وفنونها وآدابها ومصادر معارفها المختلفة، كيما يسهل على القوى الاستعمارية المهيمنة، إدماج الأمة  في المنظومات الثقافية الصهيوغربية، بعد طمس كل معلم أو رمز أو أثر، يربطها بدينها وتاريخها وحضارتها، وتحويلها إلى قطعان بشرية مجردة من أي إحساس  بالانتماء، وتصبح أمة من غير انتماء هوياتي، فيسهل إخضاعُها وتجريدها من الإرادة وغرائز الشعور بالأنّية والكينونة.

في الجزائر كان الاستعمار، يعمل على إزالة العربية الفصحى بكل ما يستطيع، وقد أسس جريدة سنة (1927/1947)، اعتمدت لغة عامية متسفّلة، وهي خليط من الفصحى والعامية ذات تراكيب ركيكة، منها ما جاء في العدد الأول “اعلموا يا مسلمين أرشدكم الله العظيم، سلطان افرنصة نصره الله، اتفق له برأيه وقوع هذا المبشر مختص لفائدتكم، يرضى لكم ما يرضاه لنفسه”، (لغتنا والحياة، ص 173).

بعذها، تصبح الأمة سهلة الانقياد والانجذاب والذوبان، فتقبل الخضوع والخنوع والولاء والمركوبية اللغوية والثقافية والسياسية، على نحو ما هو موجودٌ لدى الأنظمة المطبِّعة وعبيدهم من الذباب السمّع التبّع، ممن فقدوا الإحساس بمركزية الذات الحضارية والقومية والدينية، فقبلوا التحلّل من أي قيمة لها ارتباط بالجذور التاريخية، ورضوا بالانصهار في الثقافة الصهيوغربية المعادية لمشاريع للأمة.

وكان أول من دعا إلى استعمال العامية في التدريس والإدارة، حسب ما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطبي، هو المستشرق الألماني وِلْهام سبيتا سنة 1880م، كان يشغل مديرا لدار الكتب المصرية، وقد تنبأ بموت الفصحى في مصر، واعتمد في تحليله على الثنائية اللغوية (الفصحى والعامية)، (د/ مصطفى بن حمزة، جريدة هسبريس الإلكترونية).

وكان هذا المستشرق متعصبا، وخصما لدودا للّغة العربية، وقد شكل هذا الملف أحد أبرز الاستراتيجيات لدى الغربيين، إذ وضعوها في مراكزهم الاستخباراتية، لتفكيك الوحدة الروحية والاجتماعية واللغوية للعرب مجتمعين،

وقد أوكلوا فكرة تبني استعمال التدريس بالعامية إلى الطابور الخامس، من المستغربين الفرانكوفيل والأنجلو سكسون من ذوي الصلة والولاء القوي للثقافة الغربية، وهم لفيفٌ بشري ممن نما لديهم الشعورُ باحتقار الذات والتاريخ والحضارة والهوية، وقد تلقوا تعليمهم في المدارس الاستعمارية والمؤسسات الموالية لها، ونهلوا من سموم البحوث الزائفة لغلاة الاستشراق والتنصير، ولما نمت لديهم نامية الولاء أُوكِل إليهم مَهمّة التنفيذ على المستوى المحلي، وحين تهيأت الظروف الملائمة ووطّد لهم الغرب سبل التمكين والسيطرة، فلما تمّ لهم ذلك أوعزوا لهم بتحريك الآلة الدعاية، لإحياء  مشروع تدريس العامية في التعليم، وتزيين مساوئها بالدعاية المخادعة، كيما يقبل بها البسطاء من الناس، من ذلك ما ابتدعوه من إطلاق مقولات غير دقيقة على نحو “لغة الأم القريبة من حياة الأطفال والمجتمع”، فكانوا بصنيعهم هذا وكلاء صادقين عن الجهات الأجنبية، فجعلوهم أوصياء على الأمة، ومكّنوا لهم من الوصول إلى المراكز الحساسة، حتى يتمكنوا من توجيه السياسة والأخلاق والثقافة والتعليم، والاتجاهات العامة لدولهم.

وكانت هذه السياسة مخططا لها بعناية فائقة، إذ بعدما تم لهم تهديم القواعد البنيوية للدولة العربية روحيا وسياسيا، وأصبحت في طريق الانحلال والابتذال والتيه والزوال، بفقدان الخصوصية الحضارية، واصلوا مشروعهم التهديمي، بالإجهاز على ما تبقى من الروابط الاجتماعية واللغوية والثقافية، فبدأوا بالدعوة من جديد إلى إحياء المشروع الاستعماري على أيدي وكلائهم المتنفذين، بأن يقضوا على آخر رابط روحي واجتماعي وثقافي، وهو رابط اللغة  الفصحى بقواعدها وعلومها وفنونها وأصولها، إحياءً للمشروع الاستشراقي الاستعماري القديم.

وفي الاتجاه ذاته الذي رسم خطَّ سيره المستشرقُ سبيتا، ذهب على أثره  مهندس الري الانجليزي المسمى ويلكوكس سنة 1893م، الذي  كان يعمل مبشرا متخفيا عن الناس في نادي الأزبكية، فدعا إلى إحلال العامية محل الفصحى، وأسس لأجل ذلك مجلة كان يستعمل فيها العامية، ولم تلبث أن أغلقت بسبب رفض العلماء والمثقفين لها، وبعد ثلاثين سنة ظهر هذا المبشر على حقيقته المعادية، فترجم الإنجيل إلى العامية وأصدره سنة 1925م، وألّف أحدُ قضاة مصر بمحكمة الاستئناف في مصر من الإنجليز، وهو القاضي ولمور كتابا سمَّاه “لغة القاهرة”، ووضع له قواعد لضبط كلماته وألفاظه، ثم اقترح اتخاذ العامية لغة العمل والأدب، وقد وجد مقاومة شديدة من العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين” (المرجع السابق).

ورد عليه حافظ إبراهيم بقصيدته الشهيرة، التي عظّم فيها اللغة العربية، وأبان محاسنها وكنوزها وجواهرها، هذا مطلعها.

رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي***وناديت قومي فاحتسبت حياتي

رموني بعقم في الشباب وليتني***عقمت فلم أجزع لقول عداتي

إلى آخر القصيدة، ثم خلَفَ من بعدهم خلْفٌ من أبناء مدارس الاستشراق، ممن انبهروا بآراء المستشرقين والمبشرين، من أمثال سلامة موسى وسعد عقل واليازجي ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم، ممن دعوا إلى ضرورة كتابة الأعمال الفنية والدرامية والمسرحية بالعامية، وهذا ما حدث وعُمِّم على سائر البلدان العربية، وبقي أثره ساريا إلى اليوم، إلا في الأعمال الدرامية التاريخية، وبعضهم الآخر مثلما وقع عندنا في الجزائر، دعوا إلى إعادة ترتيب القرآن نزوليًّا، تقليدا لما قاله المستشرق الأماني نولدكه، خلافا لما هو عليه في المصحف الشريف من ترتيب توقيفي.

وفي الجزائر كان الاستعمار، يعمل على إزالة العربية الفصحى بكل ما يستطيع، وقد أسس جريدة سنة (1927/1947)، اعتمدت لغة عامية متسفّلة، وهي خليط من الفصحى والعامية ذات تراكيب ركيكة، منها ما جاء في العدد الأول “اعلموا يا مسلمين أرشدكم الله العظيم، سلطان افرنصة، نصره الله، اتفق له برأيه وقوع هذا المبشر مختص لفائدتكم، يرضى لكم ما يرضاه لنفسه”، (لغتنا والحياة، ص: 173).

وبعد الاستقلال مباشرة، رفع لواءَ هذه الدعوة غلاةُ الفرانكفونية، ممن تأثروا بالثقافة الغربية روحا وعقلا، من الذين كانوا على رأس الإدارة الجزائرية،  وكانوا يكيدون للعربية في الخفاء ولم يظهروا للعيان، لأن الدولة كانت قوية وملتزمة بخطها الوطني والقومي، وبعد الانفتاح الديمقراطي ظهروا على حقيقتهم المعادية، وكشروا على أنيابهم  وأعلنوها حربا بلا هوادة بأساليب مختلفة، أضعفها كان التحدث إلى الشعب بلغة عدوه تشفيا ونكاية فيه، من غير أن تتحرك المشاعر الوطنية في نفوسهم، وتؤنِّبهم ضمائرهم على أفعالهم المنافية لتضحيات الشهداء والمجاهدين والشعب، وفيهم مجاهدون كبار وأبناء شهداء ومجاهدين، ممن يفترض أن يعطوا القدوة الحسنة للأجيال، في الوطنية وروح المسئولية.

ثم بادرت عَرّابُ الفرانكفونية، وهي أستاذة جامعية في اللسانيات، فنشرت كتابا  سمّته (المدرسة الجزائرية من بافلوف إلى ابن باديس)، وهو كتابٌ من الحجم المتوسط، هاجمت فيه المدرسة الأساسية ومناهجها ورجالاتها الذين أسسوا نظامها التربوي، والكتابُ عبارة عن مقالات إنشائية، لم تُضَمِّنه استبياناتٍ وتحاليلَ إحصائية، للاستدلال على صحة فروضها وملاحظاتها واستقرائها وعيّناتها وآرائها واستنتاجاتها.

كان تحاملها -واضحا- على مناهج المدرسة الأساسية وطرائقها وأهدافها، وهو ترجمة صادقة للأفكار ذاتها التي اعتاد غلاة الفرانكفيل طرحها، فذهبت إلى أن سبب ضعف مستوى التعليم الأساسي هو المرجعية الشرقية (اللغة العربية)، التي اعتمدها واضعو المدرسة الأساسية، لارتباطهم اللغوي والثقافي بهذه المرجعية، وهذا الارتجالُ في النقد  لانعدام التخصص، في علوم التربية وعلم النفس التربوي والمدرسي، وعدم إلمامها بمدارس علم النفس الحديثة، هو ما أوقعها في هذا الخلط المنهجي والنقدي.

وكذلك لارتباطها الشديد بالفضاء الثقافي الفرنسي، واعتباره مرجعا مثاليا في التأسيس للتربية الحديثة وعلم النفس، من غير دراية بأن مدارس علم النفس الشهيرة التي تأسست بين 1895و1912، كلها مدارس تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المرجع الأعلى الذي تأخذ منه دول العالم  نظمها التربوية، بما فيها النظم التربوية في العالم العربي، التي اعتبرتها الأستاذة “نظما ذات مرجعية متخلفة”، وهي مرجعية كغيرها تعتمد على المدارس البحثية الكبرى ونظريات التعلّم الشهيرة، التي وضعتها مدارس علم النفس في أمريكا، وفرنسا نفسها تأخذ من هذه المدارس، وتترجمها إلى لغتها مثلما يفعله العرب والجزائر والعالم كله.

مدارس علم النفس الشهيرة أمريكية وليست فرنسية، وكبار المفكرين التربويين والنفسانيين والمنظرين كلهم أمريكيون، من أمثال: (بوبيت، سكنر، ثورندايك، واطسن، تايلر، كانيي، ماجر، ميجر، بلوم، كوفكا، كوهلر.. وغيرهم)… وهؤلاء هم الرواد الأوائل الذين أسسوا لعلوم التربية وسيكولوجية التعلم الحديثة، ولا يوجد أي واحد من كبار المربين ممن كوّنوا مدارس كبرى من الفرنسيين، ينبغي ألا ننسى من الفرنسيين (روسو، لمارتينيار، ألان)، ولكنهم ليسوا أصحاب مدارس كبرى مثل الأمريكيين.

وحينما أسست هذه الأستاذة، مدرسة خاصة لم تعتمد لغة الأم، التي طالما دعت إليها ووثقتها في كتاب خواطرها، وإنما اعتمدت الفرنسية لغةً للتعلّم انطلاقا من السنة الأولى، وهنا انكشفت الحقيقة المزيفة لهؤلاء العَرّابين.

ثم وليتها وكيلةٌ أخرى أظهرت شغفها بالعامية، تربّعت على وزارة التربية بإيعاز خارجي، وهي لا تفقه شيئا  في علوم التربية والنفس، لأنها من تخصص أخر لا صلة له بعلوم التربية والتعليم، دعت بإشارة ممن عيَّنوها (كبيرهم في السجن) إلى اعتماد العامية في التدريس، وتصدى لها المخلصون من المسئولين والسياسيين والمثقفين والوطنيين، وأفشلوا مخططها الاستشراقي الاستعماري، رغم تأييد الطابور الخامس لأطروحتها بدفاع قوي ومستميت، وكان أبرز رجال هذا الطابور، أحد الروائيين المنقلبين من المهووسين بالأدب الإباحي بمحتوياته الماجنة، وهي المحتويات التي لا تستسيغها الأذواقُ السليمة، التي مازلت تحتفظ برشدها الفطري النقي.

وفي الختام نقول: ستموت كل دعوة ضالة وباطلة، ومناهضة لمشاريع الأمة وخصائصها الهوياتية، لأن هذا مما قضت به المشيئة العليا، التي لا يردّها باطل زائف، أو مارق خارج عن المألوف البشري.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!