-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إسلامية أردوغان وعلمانية تركيا

محمد بوالروايح
  • 1632
  • 0
إسلامية أردوغان وعلمانية تركيا

فاز رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة، وهو فوز لم يكن سهلا ولكنه كان متوقعا بالنظر إلى عدة عوامل أهمها تغلغل حزب العدالة والتنمية في عمق المجتمع التركي، وجملة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي قام بها أردوغان في العهدتين السابقتين، وارتفاع بورصته بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي تعرض له في جويلية 2016، ونجاح أردوغان في استعادة مكانة تركيا على الصعيد الإقليمي والدولي، والبراغماتية التي يتبناها أردوغان في تسيير الدولة التركية ذات التوجُّهات الإيديولوجية المختلفة.

لكن ما يعدُّه محللون عوامل قوةٍ ساعدت أردوغان على الاحتفاظ بكرسي الرئاسة في تركيا للمرة الثالثة، يعدُّه معارضون دليلا على سياسة الانفراد بالحكم التي تقلص في نظرهم من صلاحيات المؤسسة التشريعية. وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء المعارضين إلى حد اتهام أردوغان وحزب العدالة والتنمية بالاستحواذ على مفاصل الدولة وممارسة القمع السياسي ضد المعارضين تحت ذريعة “محاربة الفساد السياسي”.

ليس الغرض من هذا المقال الخوض في السجال السياسي بين مؤيدي أردوغان ومعارضيه فهذا موضوع قد نفرد له مقالا مستقلا، وإنما الغرض منه الوقوف على مظاهر الفسيفساء السياسية في تركيا التي تتعايش بمقتضاها مختلف المشارب والمذاهب تحت شعار الولاء لمبادئ العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك والتي لا تقبل تعديلا مهما كانت توجهات الحزب الذي يصل إلى  السلطة.

لدى أردوغان حسٌّ إسلامي وحنين إلى الماضي العثماني قبل التمييع الذي طاله في عهد أتاتورك، فقد استطاع التخفيف من سطوة العلمانية، إلا أنه لم يستطع التحرر من قبضتها لأنها  محاطة بسياج من القداسة التي لا يمكن كسرها إلا بتغيير جذري في تركيا لا أظن أن ظروفه قد تهيأت، كما استطاع أن يكسب إعجاب الشعوب العربية والإسلامية بسبب مواقفه الجريئة ضد المعسكر الأوروبي والأمريكي.

إن العلمانية في تركيا عقيدة قومية، فهي أكبر من الأحزاب والهيئات لأنها روح الدولة التركية، فالرئيس المنتخَب من أي تيار سياسي ملزَم بتطبيق هذا القسم الوارد في المادة 103 من الدستور التركي بحذافيره: “بصفتي رئيسا للجمهورية أقسم بشرفي وعرضي أن أحافظ على بقاء الدولة واستقلالها ووحدة الوطن والشعب التي لا تقبل التقسيم، وصيانة سيادة الأمة بلا شرط أو قيد، والتمسك بالدستور وسيادة القانون والديمقراطية ومبادئ أتاتورك وإصلاحاته ومبدأ الجمهورية العلمانية، ولن أتخلى عن أصل تمكين الجميع من حقوق الإنسان والحريات الأساسية في إطار أمن ورفاهية الأمة والعدالة والتضامن الوطني، وسأبذل قصارى جهدي من أجل صون سمعة الجمهورية التركية وشرفها وإعلائها وأداء هذه المهمة التي أتولاها بكل حياد”.

لا يرى أردوغان تنافيا بين الإسلام والعلمانية، إذ أكد في حوار مع قناة “العربية” الفضائية قبل مدة أن مفهوم العلمانية الذي يؤمن به هو علمانية الدولة عبر إقرار مبدأ التسامح بين كافة المعتقدات والأديان والوقوف منها على مسافة واحدة. هذا التأويل السياسي للعلمانية –في اعتقادي- لا يمكن أن يبرِّئ العلمانية التركية فضلا عن أن يجعلها غير منافية للإسلام، فالتاريخ شاهدٌ على التحريف الممنهج لمبادئ الشريعة والتربية لإسلامية الذي قام به مصطفى كمال أتاتورك.

لدى أردوغان حسٌّ إسلامي وحنين إلى الماضي العثماني قبل التمييع الذي طاله في عهد أتاتورك، فقد استطاع التخفيف من سطوة العلمانية، إلا أنه لم يستطع التحرر من قبضتها لأنها  محاطة بسياج من القداسة التي لا يمكن كسرها إلا بتغيير جذري في تركيا لا أظن أن ظروفه قد تهيأت، كما استطاع أن يكسب إعجاب الشعوب العربية والإسلامية بسبب مواقفه الجريئة ضد المعسكر الأوروبي والأمريكي وضد الكيان الصهيوني رغم سياسته البراغماتية في هذا الجانب.

يوصف أردوغان بأنه “زعيمٌ إسلامي” رغم أنه يحكم دولة علمانية، لأن العبرة عند من يتشبثون بهذا الوصف بما يُتخذ من مواقف لصالح المسلمين في العالم، وحسنات أردوغان في هذه الناحية أكبر من أن ينكرها الناكرون أو يجحدها الجاحدون حتى أشدهم معارضة لخطه السياسي والذين يتهمونه بدعم تيارات إسلامية مصنفة لديهم في خانة الكيانات الإرهابية.

أعتقد أن تركيا في ظل الولاية الرئاسية الثالثة لأردوغان مقبلة على تغييرات سياسية عميقة ستمسُّ جوهر نظام الحكم العلماني، لأن سعي أردوغان إلى أسْلمة هذا النظام ليس وليد المرحلة الراهنة، بل يعود إلى بداياته السياسية كوريث لأفكار نجم الدين أربكان حسب بعض المحللين السياسيين، وكقطب من أقطاب ما يمكن تسميته “البديل الإسلامي” في تركيا العلمانية. إن أردوغان –حسب هؤلاء المحللين-  سيُخرج ما في جعبته وسيرمي بكل ثقله السياسي خلال هذه الولاية الرئاسية الجديدة لأنه لا يريد إنهاء مشواره السياسي من غير حصيلة معتبرة لصالح التيار الإسلامي الذي ينتمي إليه والذي ناضل من أجله مدة طويلة بل تعرّض من أجله إلى كثير من الأذى السياسي.

رغم علمانية نظام الحكم في تركيا، إلا أن لأردوغان عملا إسلاميا على الهامش، فهو يحاكي في مواقفه مواقف بعض السلاطين العثمانيين وخاصة فيما يتعلق بقضية الأقصى التي لا يتوانى أردوغان في أي قمة أوروبية أو أنجلو أمريكية عن التذكير بها، ومن ذلك رسائله المتكررة إلى مجموعة الثمانية بضرورة رفع الغطاء عن الهمجية الصهيونية المنتهِكة للسيادة الفلسطينية ولمبادئ القانون الدولي الإنساني.

ورغم علمانية نظام الحكم في تركيا، إلا أن لأردوغان لمسة خاصة من خلال محاولته التوفيق بين مبدأ الحياد السياسي الذي تسلكه تركيا حيال بعض القضايا الدولية وبين مبدأ نصرة القضايا الإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي أكد وقوفه إلى جانبها من غير أن يؤثر ذلك -كما قال- على العلاقات الإسرائيلية التركية وهذا ما صرح به في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس: “نحن لا نقبل بأي شكل من الأشكال، أي أعمال تهدف إلى تغيير الوضع القانوني للقدس والمسجد الأقصى. إننا ننقل حساسيتنا وتطلعاتنا بشأن هذه القضايا إلى نظرائنا الإسرائيليين مباشرة وبكل وضوح وصراحة. إن الخطوات المتخذة حول علاقاتنا مع إسرائيل لن تقلل بأي حال من الأحوال من دعمنا للقضية الفلسطينية”.

ونشر موقع “ترك برس”، وهو موقعٌ إخباري تركي مستقل ناطق بالعربية، مقالا جدليا للكاتبة الأردنية إحسان الفقيه بعنوان: “أردوغان: إسلامي أم علماني؟ تلك هي المعضلة”، ومن أهم ما جاء في هذا المقال: “أردوغان إسلاميٌّ أم علماني. تلك هي قضية العصر التي أشغلنا بها أناس ذوو توجهات مختلفة، فالعلمانيون يصفونه بالإخواني الأصولي المتطرف، الذي يسعى إلى أسْلمة المجتمع التركي الذي صبغه أتاتورك بالصبغة العلمانية، ويريد أن يصل بالدولة إلى حكم إسلامي رجعي على حد وصفهم. أما بعض الإسلاميين وعلى رأسهم التيار السلفي، فيصفون أردوغان بأنه علمانيّ، وهم يشيرون إلى الدعارة المقننة، والخمَّارات المُرخَّصة، وابتعاد القوانين عن المرجعية الإسلامية”.

ويبدو أن إحسان الفقيه قد اقتبست هذا السؤال الجدلي: أردوغان إسلامي أم علماني؟ مما جاء في كتاب شريف تغيان “الشيخ الرئيس رجب طيب أردوغان: مؤذن إسطنبول ومحطم الصنم الأتاتوركي” الذي يقول فيه: “لا يمكن تجاهل الخلفية الإسلامية لأردوغان، والذي تسلّم السلطة عبر جهود تراكمية لأحزاب وكيانات ذات جذور إسلامية انطلقت من الأساس الروحي الذي وضعه (بديع الزمان النورسي)، وأخذت قالبها السياسي،  تعرَّضت في طريقها هذا إلى التهميش والإقصاء والاستئصال .إن تركيا تشهد صراعا على الهوية بين حقبة أتاتورك التي لا زالت آثارُها ضاربة في المجتمع التركي، وبين التراث الإسلامي المرتكز على الفكرة الإسلامية، والذي أحياه أردوغان”.

وجاء في “بورتري” لـ”الجزيرة الوثائقية” لجميل حبلا بعنوان: “أردوغان: زعيمٌ عثماني في جلباب علماني”، يقول فيه: “في مختلف أعمار وفئات الشعب التركي ترك رجب طيب أردوغان بصمات خالدة، أجيال شبابية رأت فيه طموحها نحو تركيا العظيمة القوية، وأجيال أخرى وُلدت تحت صيحاته ضد ما يراه الفساد والإمبريالية العالمية، وهوية تركيا الإسلامية التي ينبغي أن تستعيدها”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!